طوعية أم قسرية؟ .. آلاف السودانيين يواجهون خيار العودة من مصر رغم المخاطر
متابعات _ اوراد نيوز

متابعات _ اوراد نيوز
في ظل تراجع دور المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، وتدهور الأوضاع الاقتصادية وارتفاع تكاليف المعيشة، بات آلاف السودانيين المقيمين في مصر يواجهون واقعاً صعباً يدفعهم نحو خيار العودة إلى بلادهم، رغم المخاطر الأمنية والإنسانية. وتداولت تقارير غير رسمية معلومات عن خطة تهدف لإعادة مليون سوداني من القاهرة إلى الخرطوم، وسط غياب فرص العمل المجزية وتضاؤل البدائل الآمنة.
في وقت تتعدد فيه دوافع السودانيين لمغادرة مصر والانجذاب إلى مشروع “العودة الطوعية”، يوضح ياسر فراج، مدير مكتب “حق” للدعم القانوني والنفسي للاجئين، أن شريحة كبيرة منهم باتت بلا خيار سوى العودة إلى السودان، بسبب افتقارهم لمصادر دخل وعدم امتلاكهم المهارات اللازمة للاندماج في سوق العمل المصري.ويأتي ذلك في سياق ضغوط معيشية متزايدة وتراجع ملحوظ في دعم المفوضية الأممية، ما يجعل ما يُعرف بـ”العودة الطوعية” خياراً اضطرارياً في واقع الأمر، فرضته ظروف اقتصادية خانقة لا توفر بدائل حقيقية للاستقرار أو الكرامة.
قطارات بدل الأتوبيسات: المرحلة الثانية من “العودة الطوعية” تنطلق من القاهرة إلى الخرطوم
تواصلت خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة الرحلات الأسبوعية لبرنامج “العودة الطوعية” الذي يُعيد السودانيين من القاهرة إلى الخرطوم، في إطار جهود منظّمة تنفذها جهات سودانية محسوبة على الجيش.
ومع انطلاق المرحلة الثانية من المشروع يوم الإثنين الماضي، شهدت العملية تحولاً لافتًا في وسيلة النقل، حيث تم استبدال الحافلات بالقطارات، وذلك بالتنسيق مع السلطات المصرية، في خطوة تهدف إلى تحسين ظروف السفر وزيادة الطاقة الاستيعابية للعائدين.
بين قطارات العودة وطرق التهريب.. انقسام في خيارات السودانيين الفارين من الحرب
في الوقت الذي تتواصل فيه رحلات “العودة الطوعية” من القاهرة إلى الخرطوم، وثّقت صحيفة اندبندنت عربية شهادات عدد من السودانيين الذين عبّروا عن رفضهم العودة في ظل استمرار الاشتباكات بين الجيش وقوات “الدعم السريع”.
وبالتوازي مع هذه الرحلات المنظمة، رصدت الصحيفة أيضًا حالات فرار متزايدة عبر الحدود المصرية بطرق غير نظامية، في محاولة للهروب من جحيم المعارك الدائرة في مناطق النزاع، ما يعكس تعقيد المشهد الإنساني وتباين الخيارات أمام السودانيين النازحين.
وفي توضيحها لأسباب التحول إلى القطارات، بيّنت رئيسة لجنة العودة الطوعية، أميمة عبد الله، أن هذا الخيار جاء استجابةً للطلب المتزايد من السودانيين المقيمين في مصر على العودة، وسعيًا لتقليل عدد الرحلات الأسبوعية من يومين إلى يوم واحد، عبر استخدام وسيلة نقل تسع أعدادًا أكبر من الركّاب مقارنة بالحافلات.
وأكدت عبد الله أن اللجنة تعتزم مواصلة المرحلة الثانية من المشروع باستخدام القطارات، حتى بلوغ العدد المستهدف من العائدين، في إطار خطة منظمة تهدف إلى تسهيل عودة من يرغبون في الرجوع إلى السودان طوعًا، رغم التحديات الأمنية والإنسانية المستمرة في البلاد.
ورغم الأوضاع الأمنية غير المستقرة، كشفت المنظمة الدولية للهجرة، عن تصاعد ملحوظ في وتيرة عودة السودانيين من مصر إلى بلادهم خلال العام الجاري، حيث بلغ عدد العائدين خلال شهر يونيو/حزيران وحده نحو 26,965 شخصًا.
وأوضحت المنظمة أن إجمالي السودانيين الذين عادوا من مصر إلى السودان بين يناير ويونيو 2025 وصل إلى 191,075 فردًا، وهو رقم يُعد قفزة كبيرة مقارنة بعام 2024، الذي سجل خلاله 42,418 عائدًا فقط، ما يعني أن عدد العائدين في النصف الأول من 2025 تضاعف نحو خمس مرات مقارنة بالعام السابق بأكمله.
وبيّنت المنظمة أن الغالبية العظمى من العائدين ينحدرون من ولايتي الخرطوم بنسبة 65%، والجزيرة بنسبة 23%، وهما من أكثر المناطق تضررًا بالنزاع، ما يعكس حجم الضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي دفعت كثيرين للعودة رغم المخاطر، وسط استمرار الإغلاق الجزئي للمرافق، وتدهور الخدمات الأساسية في مناطق النزوح والعودة.
هل هي عودة طوعية أم قسرية؟
تروي لاجئة سودانية مقيمة حاليًا في القاهرة تفاصيل تجربتها القاسية، مشيرة إلى أنها وصلت إلى مصر في نوفمبر 2024 عبر طرق التهريب، بعد أن لجأت عائلتها إلى هذا الخيار على مراحل متفرقة بسبب تعقيدات السفر النظامي، وانعدام الخيارات الآمنة في ظل الحرب المتواصلة.
ورغم الاستقرار النسبي الذي وجدته في القاهرة، إلا أن محاولاتها لثني شقيقها عن قرار العودة إلى السودان باءت بالفشل، إذ يصرّ على مغادرة مصر نتيجة ما وصفته بـ”الضغط النفسي والمعيشي” الناتج عن انخفاض دخله وتردي ظروف العمل.
وتوضح أن شقيقها عمل في عدة أماكن داخل العاصمة المصرية، متنقلاً بين مطاعم ومخابز، مقابل أجر يومي لا يتجاوز 100 جنيه مصري، يُطلب منه في المقابل العمل لساعات طويلة تصل إلى 12 ساعة يوميًا، في حين أن الحد الأعلى لساعات العمل في السودان لا يتجاوز ثماني ساعات. وتضيف أن شقيقها يعمل دون توقف على مدار الأسبوع لتأمين الحد الأدنى من احتياجات الأسرة، مما ضاعف من إحساسه بالإرهاق النفسي والبدني، ودفعه لاتخاذ قرار العودة كملاذ أخير.
رداً على ما يُثار بشأن دفع مبالغ مالية من قِبل بعض السودانيين لوسطاء مقابل الانضمام إلى رحلات العودة الطوعية من مصر إلى السودان، نفت رئيس لجنة العودة الطوعية بشكل قاطع وجود أي رسوم على المستفيدين من البرنامج، مؤكدة أن المشروع يُدار بشكل مجاني بالكامل.
وأوضحت أن اللجنة تتولى تغطية كافة التكاليف المتعلقة بالرحلات، بما في ذلك أجور القطارات ورسوم عبور المعابر الحدودية، مشيرة إلى أن اللجنة تسدد مبلغ 250 جنيهاً مصرياً عن كل فرد من العائدين.
وشددت على أن أي مطالبات مالية من وسطاء أو جهات غير رسمية تمثل حالات احتيال لا تمت بصلة للجنة أو لجهات تنظيم المشروع، داعية السودانيين إلى عدم التعامل مع أي جهات غير معتمدة، والإبلاغ عن محاولات النصب لضمان حماية حقوقهم وتسهيل عودتهم الآمنة إلى الوطن.
تتبع مبادرة “العودة الطوعية” مسارًا منظمًا لإعادة السودانيين من مصر إلى المناطق الآمنة في السودان، حيث أوضحت أميمة عبد الله، رئيسة اللجنة المشرفة على المشروع والمنبثقة عن منظومة الصناعات الدفاعية التابعة للجيش السوداني، أن العملية تتم بالكامل دون تحميل العائدين أي تكلفة مالية.
وبحسب عبد الله، تنطلق الرحلات عبر القطارات من القاهرة إلى السد العالي، ثم تقلهم حافلات إلى المعبر الحدودي، حيث يُستكمل النقل داخل السودان بواسطة 20 حافلة مخصصة لإيصال العائدين إلى وجهاتهم النهائية في الخرطوم، في ظل ما وصفته بـ”خطة وطنية منظمة ومجانية”.
ورغم طابعها الإنساني، يرى عدد من المراقبين أن المبادرة ذات طابع دعائي، مشيرين إلى أن عدد المستفيدين لا يزال محدودًا مقارنة بحجم السودانيين المقيمين في مصر، والذين يتجاوز عددهم المليون، في حين لا تتجاوز الرحلة الأسبوعية الواحدة نحو ألف شخص. لكن عبد الله ردت بأن هناك أكثر من 3 آلاف سوداني على قوائم الانتظار، مع هدف طموح بإعادة مليون شخص خلال فترة زمنية محددة.
وفي سياق متصل، يرى أشرف ميلاد، القانوني المختص بشؤون اللاجئين الأفارقة، أن المشروع يحمل دلالة رمزية أكثر منها واقعية، لافتًا إلى أن غالبية العائدين لا ينتمون إلى مناطق النزاع المباشر مثل دارفور، حيث ما يزال الوضع الأمني هشاً. وأكد أن الظروف الاقتصادية في مصر، بما في ذلك تراجع الدعم المقدم من مفوضية اللاجئين، وتعرض بعض السودانيين للتوقيف بسبب غياب الإقامة القانونية، تدفع بعضهم نحو العودة رغم المخاطر.
وعن تنظيم العملية، قالت أميمة عبد الله إن اللجنة تعتمد على نافذة موحدة للتسجيل عبر رقم “واتساب”، وتتطلب تقديم مستندات رسمية تثبت الجنسية السودانية مثل جواز السفر أو البطاقة القومية لكل أفراد الأسرة. ونبّهت إلى أن اللجنة لا تتعامل مع أي طلب لا يستوفي الشروط القانونية، في ظل تأكيدها على نزاهة الإجراءات ورفض الوساطة أو التحايل.
وأشارت إلى أن أكثر من 50 ألف سوداني عبروا المعبر الحدودي خلال الأشهر الماضية على نفقتهم الخاصة، ما يعكس رغبة متزايدة لدى بعض الفئات في العودة رغم التحديات.
قالت أميمة عبد الله، رئيسة لجنة العودة الطوعية التابعة لمنظومة الصناعات الدفاعية السودانية، إن السودانيين الراغبين في العودة من مصر، والذين ينحدرون من مناطق لا تزال تشهد مواجهات عسكرية، عادة ما يطلبون الوصول إلى مناطق آمنة تتوفر فيها شبكات دعم أسرية، مشيرة إلى أن محطات الوصول المعتمدة تشمل ولاية نهر النيل، ومدينة عطبرة، والميناء البري في الخرطوم.
وأضافت أن غالبية العائدين في إطار البرنامج من سكان الخرطوم، التي باتت شبه خالية من أهلها بسبب النزاع المستمر، بينما لم تُسجّل اللجنة أي حالة عودة من دارفور حتى الآن، على الرغم من تزايد انضمام سكان ولاية الجزيرة إلى الرحلات.
وفي ظل هذا المشهد المعقد، يرى ياسر فراج، مدير مكتب “حق” للدعم القانوني والنفسي للاجئين، أن واقع السودانيين في مصر يُعد دافعاً قوياً للعودة، حتى في ظل المخاطر الأمنية داخل السودان. وأوضح أن عددًا كبيرًا من السودانيين دخلوا مصر بطرق غير نظامية، ما يضعهم في موقف قانوني هش ويحدّ من قدرتهم على الحركة أو الحصول على إقامة رسمية.
وأشار فراج إلى أن كثيرًا من العائلات استنفدت مدخراتها، وتعتمد بالكامل على تحويلات مالية من أقاربهم في الخارج، في وقت أصبحت فيه تكاليف المعيشة في مصر مرهقة، وفرص العمل محدودة، خاصة لأولئك غير المؤهلين أو من أصحاب المهارات المحدودة.
وأضاف أن تجربة الاندماج الثقافي والاجتماعي في مصر لم تكن سهلة للعديد من السودانيين، مما فاقم شعورهم بالعزلة ودفعهم للتفكير في العودة، رغم إدراكهم لخطورة الوضع في بلدهم. لكنه في المقابل أكد وجود ما وصفه بـ”العودة العكسية”، إذ سجلت جهات حقوقية حالات متزايدة لسودانيين عادوا من الخرطوم مجددًا إلى مصر، في حركة تنقل نشطة تعكس حالة من التردد والانقسام في قرارات السودانيين بشأن مستقبلهم، وسط واقع إنساني شديد التقلب.
من ضاقت بهم السبل، وانكمشت خياراتهم تحت وطأة الغلاء وتآكل العملة، وجدوا أنفسهم مجبرين على النظر نحو الوطن. ليس لأنه بات آمناً، بل لأن البقاء في المنافي – وخصوصاً دول الجوار مثل مصر – صار رفاهية لا طاقة لهم بها. بات المجهول في السودان أهون من جحيم المعيشة اليومية.
أما من أسعفهم الحظ بدعم خارجي أو سند عائلي في الشتات، فيحاولون بشق الأنفس بناء أوطان صغيرة وسط مجتمعات لا ترحب، في ظل تعليم متواضع، ورعاية صحية محدودة، وسوق عمل مسدودة، وواقع قانوني يكرّس التمييز.
المفارقة أن كفّتي الميزان – البقاء والعودة – كلتاهما مُرّة؛ لا الأولى تضمن الكرامة، ولا الثانية تمنح الأمان. فاللاجئ لا يختار مصيره كما نتصور، بل يُدفع إليه دفعاً، بلا رؤية ولا ضمانات، سوى تعلّق هشّ بشيء من الحنين. ولهذا، فإن تصوير العودة الطوعية كخيار حرّ، يبدو مجافياً للواقع في أغلب الأحيان؛ إنها، في حقيقتها، عودة اضطرارية مقنّعة”.