
في زاوية ظليلة تحت شجرة ميتة في أحد مراكز الإيواء بمدينة الفاشر، تجلس أم كلثوم (41 عامًا) وهي تحاول إطعام طفلها النحيل جداً حفنة من “الأمباز” — ذلك العلف المخصص للحيوانات — وقد تحوّل، بفعل الحصار والجوع، إلى وجبة يومية اضطرارية.
المشهد هنا ليس استثناءً، بل هو صورة متكررة في المدينة التي ترزح تحت حصار خانق تفرضه قوات الدعم السريع منذ أشهر. في شوارع الفاشر، تختفي أصوات الباعة وروائح الطهو، لتحل مكانها طوابير الصمت ووجوه الأطفال التي فقدت بريقها. لم يعد الطعام وسيلة للتغذية أو المتعة، بل معركة بقاء يومية، تُخاض بأدوات بدائية، ووسط ندرة خانقة في الغذاء والماء والدواء.
تقول أم كلثوم وهي تحدق في ملامح طفلها المرهقة: “لم يعد لدينا شيء.. حتى الأمباز أصبح نادرًا. أطعمه وأنا أعلم أنه ليس طعامًا للبشر، لكنه الخيار الوحيد. كثير من الأمهات حولي يقدمن لأطفالهن ما لم يُخلق ليؤكل، فقط لإبقائهم على قيد الحياة”، ثم تصمت لحظة وكأنها تحصي في ذهنها ما تبقى من الغد.
الخبراء في مجال الأمن الغذائي يحذرون من أن ما يجري في الفاشر ليس مجرد أزمة عابرة، بل حالة مجاعة صريحة تتسع رقعتها. فوفق تقديرات منظمات الإغاثة، باتت آلاف الأسر تعتمد على مواد غير صالحة للاستهلاك البشري — مثل بقايا الحبوب المخصصة للماشية أو جذور النباتات البرية — كمصدر شبه وحيد للسعرات الحرارية. ويؤكد اختصاصيون أن تناول مثل هذه الأغذية على المدى الطويل يهدد الأطفال بسوء تغذية حاد، وأمراض معوية قد تكون قاتلة، خصوصًا في بيئة تفتقر إلى الرعاية الطبية.
لكن خلف هذه المأساة الغذائية تقف معركة أكبر: الحصار. إغلاق الطرق ومنع وصول الإمدادات جعل أسعار أي سلعة نادرة ترتفع أضعافًا، فيما تحوّل تهريب المواد الغذائية إلى تجارة خطيرة لا ينجو منها إلا القليل. ومع توقف سلاسل الإمداد، أصبح استيراد الغذاء مهمة شبه مستحيلة، لتبقى المدينة عالقة بين فكي الجوع والحرب.
ورغم بعض المحاولات الخجولة لإدخال المساعدات عبر منظمات إنسانية، إلا أن القوافل غالبًا ما تتعرض للمنع أو النهب قبل وصولها إلى المحتاجين.
ووفق شهادات محلية، فإن بعض السكان يقطعون مسافات طويلة سيرًا على الأقدام بحثًا عن حفنة ذرة أو قليل من العدس، بينما يكتفي آخرون بوجبة واحدة كل يومين.
في الفاشر اليوم، صار الأمباز رمزًا لمفارقة قاسية: طعام وُجد للماشية لكنه أصبح طوق نجاة للإنسان. وبينما تتسابق منظمات الإغاثة الدولية لإطلاق التحذيرات، تواصل الأمهات مثل أم كلثوم مواجهة سؤال مرعب كل صباح: ماذا سنطعم أبناءنا اليوم؟
منذ أبريل 2024، تعيش مدينة الفاشر تحت حصار خانق فرضته قوات الدعم السريع، شمل إغلاق جميع طرق الإمداد وعزلها تمامًا عن محيطها. ومع استمرار الحصار، تصاعدت العمليات العسكرية لتتحول إلى قصف مكثف بالمدفعية الثقيلة، تلاه اقتحامات برية طالت الأحياء السكنية والمنشآت الخدمية الحيوية.

الأمهات يطعمن أبناءهن بما تبقى من فتات الحياة (مواقع التواصل)

انهيار يلوح في الأفق
تدق منظمات إنسانية ناقوس الخطر محذرة من أن استمرار حصار الفاشر يضع المدينة على حافة انهيار شامل للقطاع الصحي، مع الارتفاع المقلق في معدلات سوء التغذية وغياب الدعم الدولي الكافي، ما شل قدرة المرافق الطبية على الاستجابة ورفع خطر دخول السكان في مرحلة المجاعة.
وفي 12 يوليو الماضي، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) أن شمال دارفور شهد علاج أكثر من 40 ألف طفل من سوء التغذية الحاد خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الحالي، وهو ضعف العدد المسجل في الفترة نفسها من العام الماضي، في مؤشر على تصاعد غير مسبوق للأزمة الغذائية.
وأكدت المنظمة أن النزاع في الفاشر بلغ مستويات حرجة، إذ حوصرت أحياء بأكملها، وتعرضت المستشفيات للقصف، وأُغلقت الطرق، بينما تواجه قوافل الإغاثة عمليات نهب وهجمات مسلحة، ما جعل وصول المساعدات أمرًا شبه مستحيل، في وقت تتضاعف فيه الحاجة إلى الغذاء العلاجي والخدمات الصحية المنقذة للحياة.


مأساة تتسع
رغم النداءات المتكررة، لم تصل أي إمدادات إغاثية إلى الفاشر، وسط اتهامات للمنظمات الدولية بالتقاعس عن التدخل وغياب التنسيق بين الجهات العاملة في السودان. وفي أحد مراكز الإيواء، تروي فاطمة، وهي أم لثلاثة أطفال، مأساتها بقولها: “نغلي الماء ونمزجه بالأمباز، ثم ننتظر أن يهدأ الجوع. لا دواء، لا حليب، فقط الانتظار”، في شهادة تجسد واقع الحصار الذي حوّل الطعام إلى معادلة يائسة بين الجوع والبقاء.
وتطالب الأمم المتحدة وهيئات الإغاثة الدولية بالإسراع في إسقاط المواد الغذائية والدوائية جوًا، بعد أن أصبح الوصول البري شبه مستحيل، محذّرة من أن “الأطفال يموتون بصمت، ولا أحد يستجيب”. ومع استمرار الحصار واشتداد الأزمة، يحذر مراقبون من أن تتحول الفاشر إلى سابقة مأساوية لما قد يصيب مدنًا أخرى في السودان إذا لم يتم التحرك العاجل لفتح الممرات الإنسانية، في أزمة تكشف هشاشة قدرة الاستجابة المحلية والدولية أمام كارثة تتسع يومًا بعد يوم.