
الفاشر – تعيش عاصمة ولاية شمال دارفور واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية منذ اندلاع الحرب في السودان، وسط معارك دامية بين الجيش السودانى وقوات الدعم السريع، خلّفت وفق الأمم المتحدة 89 قتيلاً خلال الأيام العشرة الماضية، فيما يواجه عشرات الآلاف من المدنيين حصاراً خانقاً وتجويعاً ممنهجاً في ظل غياب رد فعل دولي فعّال.
الأوضاع الصحية زادت سوءاً بعد تحذير منظمة الصحة العالمية من انتشار الكوليرا في جميع ولايات السودان الـ18، مع تسجيل نحو 50 ألف إصابة وقرابة 1100 وفاة، ما يفاقم المخاطر على المدنيين المحاصرين.
الكاتب والمحلل السياسي ضياء الدين بلال رسم صورة قاتمة لحال الفاشر، مؤكداً أنها تعرضت منذ بداية الحرب إلى 243 هجوماً متواصلاً من قوات الدعم السريع، التي قال إنها تستخدم سياسة التجويع كسلاح حرب، وتستهدف المدنيين الذين يحاولون مغادرة المدينة رغم إعلانها فتح ممرات آمنة. وأضاف أن هذه الانتهاكات تذكّر السودانيين بما حدث في مدينة الجنينة مطلع الحرب، حيث قُتل أكثر من 15 ألف شخص من إثنية المساليت في عمليات وُصفت بأنها إبادة جماعية.
ويؤكد بلال أن هذه الذكرى المؤلمة هي ما يغذي إصرار المقاومة المحلية على الصمود والدفاع عن المدينة، رغم الظروف القاسية التي يواجهها السكان من قصف متواصل، نقص الغذاء والدواء، وانتشار الأمراض.
القضية باتت اختباراً جديداً للضمير الدولي، الذي يواجه اتهامات بالتقاعس في حماية المدنيين ووقف الانتهاكات، فيما يرى مراقبون أن استمرار الوضع الحالي يهدد بتحول الفاشر إلى نسخة أخرى من الجنينة، بكل ما تحمله من مآسٍ إنسانية وجرائم جماعية.

أهمية المدينة
لا تقتصر معركة الفاشر على بعدها العسكري فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى أبعاد إستراتيجية وجيوسياسية عميقة، تجعلها هدفاً محورياً لقوات الدعم السريع. الباحث السياسي محمد تورشين يرى أن المدينة تمثل جائزة كبرى لهذه القوات، إذ إن السيطرة عليها تعني عملياً السيطرة على كامل إقليم دارفور، وفتح ممرات أوسع لإدخال السلاح والمرتزقة عبر الحدود مع شرق ليبيا، فضلاً عن إحياء الروح المعنوية التي فقدتها بعد هزائمها في الخرطوم وولايتي الجزيرة والنيل الأزرق.
ويشير تورشين إلى أن التموضع في الفاشر يتيح أيضاً تهديد الولايات الشمالية ومناطق أخرى في شمال وشرق السودان، ما يجعل المدينة نقطة ارتكاز محورية في حسابات الدعم السريع.
على الجانب الإنساني، يرسم الكاتب ضياء الدين بلال صورة أكثر قتامة، مؤكداً أن انتشار قوات الدعم السريع – التي سيطرت في وقت سابق على ما يقارب 75% من الأراضي السودانية – ارتبط دائماً بسلسلة من الكوارث: نهب، تدمير للبنية التحتية، واستلاب كامل لممتلكات المدنيين. وفي بعض المناطق مثل نيالا وزالنجي، يأخذ الأمر بعداً أكثر خطورة مع تصفيات على أساس عرقي.
بلال حمّل المجتمع الدولي مسؤولية الصمت المريب، منتقداً ما وصفه بالتعاطي مع المأساة في دارفور وكأنها “مناسبة أدبية”، حيث تظل بيانات الإدانة مجرد كلمات في الهواء، دون أي ضغط فعلي على الأطراف المتسببة أو الإقليمية الداعمة لها. واعتبر أن هذا الموقف يعكس تواطؤاً ضمنياً من قوى دولية تجاه الانتهاكات الممنهجة التي يتعرض لها المدنيون.
وبينما تتواصل المعارك حول الفاشر، يتضح أن المدينة لم تعد مجرد ساحة قتال عابرة، بل مفتاحاً لمعادلات الحرب والسياسة في السودان، ومؤشراً على عمق الأزمة الإنسانية التي لا تزال تبحث عن ضمير دولي يتفاعل معها بجدية.

الفاشر.. مأساة سودانية تحت المجهر الأميركي
بينما تتواصل المعارك العنيفة في مدينة الفاشر، وتتصاعد التحذيرات الإنسانية من مجاعة وشيكة، دخلت المواقف الأميركية على خط الأزمة لتسلط الضوء على قصور المجتمع الدولي في التعامل مع ما يجري في السودان.
المسؤول السابق في مجلس الأمن القومي الأميركي كاميرون هدسون وصف الوضع في الفاشر بأنه كارثي للغاية، مشيراً إلى أنه لا يحظى بالاهتمام الكافي مقارنة بأزمات أخرى مثل غزة وأوكرانيا، رغم أن السودان يشهد مجاعة تتوسع على نطاق واسع.
هدسون شدد على ضرورة إجراءات عملية عاجلة، في مقدمتها ضمان وصول المساعدات الإنسانية للمدنيين ومنع استهدافها، مؤكداً أن المجتمع الدولي مطالب بالتحدث بصوت واحد والتحرك بشكل منسق لإنقاذ السكان المحاصرين. كما أشار إلى أن الإدارة الأميركية تبدي استعداداً لتكثيف جهودها الدبلوماسية، عبر جولات يقوم بها مبعوثوها في المنطقة لتحريك المفاوضات، لكنه اعتبر أن هذه الجهود ما تزال دون المستوى المطلوب.
وطالب هدسون بانخراط أكبر للرئيس الأميركي دونالد ترامب شخصياً في الملف السوداني، عبر دفع الأطراف المتحاربة إلى اتفاق شامل لوقف إطلاق النار، وتوسيع حجم المساعدات الإنسانية المخصصة للمدنيين.
من جانبه، يرى الباحث السياسي محمد تورشين أن نجاح أي مبادرة أميركية يتوقف على جدية واشنطن وقدرتها على استخدام أدوات الضغط التي تمتلكها للتأثير على الأطراف الإقليمية المنخرطة في الصراع. ويشدد على أن أي تسوية مستقبلية يجب أن تنص بوضوح على إقصاء قوات الدعم السريع من الأدوار السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، حتى لا تتكرر المأساة التي يعيشها السودان منذ اندلاع الحرب في أبريل/نيسان 2023.
وبينما يظل المشهد الإنساني في الفاشر يتدهور يومياً، يرى مراقبون أن الموقف الأميركي قد يمثل بارقة أمل إذا ما تُرجم إلى تحركات عملية وضغط دولي متماسك، لكن استمرار حالة التراخي الدولي يجعل المدنيين في مواجهة مباشرة مع الحصار والموت البطيء.