
متابعات _ اوراد نيوز
في قلب السودان وعلى مسافة تقارب 400 كيلومتر جنوب غرب العاصمة الخرطوم تقع مدينة الأبيض، حاضرة ولاية شمال كردفان، ، وتُعد من أكبر المدن السودانية وأكثرها أهمية من الناحيتين الاستراتيجية والاقتصادية، بما يجعلها نقطة محورية في خريطة الصراع الحالي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
عقدة مواصلات وسوق عالمي
تحتل الأبيض موقعًا استثنائيًا في وسط السودان، إذ تتقاطع فيها الطرق الرابطة بين الشمال والجنوب والغرب والشرق، ما جعلها شريان مواصلات حيوي يربط ولايات عدة ببعضها. تحدّها من الجنوب جنوب كردفان، ومن الغرب غرب كردفان، ومن الشرق النيل الأبيض، ومن الشمال ولايات نهر النيل والشمالية وشمال دارفور، الأمر الذي منحها أهمية لوجستية وعسكرية كبيرة.

ولم تكن الأبيض يوماً مدينة هامشية، فقد ظلت قلب السودان النابض بالزراعة والتجارة وبحقول الذرة والفول السوداني التي تمتد بساطاً أخضر، وبسوق المواشي الأكبر في المنطقة، وتؤكد المدينة أنها ركيزة للأمن الغذائي في السودان. وفي السنوات الأخيرة، بدأت مشاريع البنية التحتية والخدمات تظهر في شوارعها، مثل جسر الأبيض الجديد ومشاريع الري، رغم التحديات التي تواجهها.
ولا تقتصر أهمية المدينة على موقعها فحسب، فهي تحتضن أكبر سوق للصمغ العربي في العالم، إلى جانب أسواق ضخمة للماشية والمحاصيل، ما يجعلها أحد أعمدة الاقتصاد السوداني.

نسيج اجتماعي متماسك وإرث تاريخي
عرفت الأبيض بتنوعها الإثني والاجتماعي، حيث تتعايش فيها منذ عقود قبائل السودان كافة وتمثل حاضنة لجميع مكونات الشعب السوداني، في نموذج فريد للتماسك المجتمعي.
كما ترتبط المدينة تاريخيًا بثورة الإمام محمد أحمد المهدي ضد الحكم التركي المصري في أواخر القرن التاسع عشر، ما يمنحها بعدًا رمزيًا في الذاكرة الوطنية.

معالم تحكي التاريخ
بين جدران مبانيها الطينية ومساجدها العتيقة، تختزن الأبيض تاريخاً حافلاً بالأحداث. فمقر حكومة ولاية شمال كردفان يقف شامخاً كحارس للهوية، بينما تروي خلوات الدرويشة حكايات الروحانيات الصوفية التي طبعت المدينة. أما متحف الأبيض، فيجسد سفراً مفتوحاً على ثقافات السودان، من أدوات الزراعة التقليدية إلى مشاهد الحرب والسلام.

تحديات وطموحات
رغم جمالها وعمقها التاريخي، تعاني الأبيض، كغيرها من مدن السودان، من نقص الخدمات الأساسية وضعف البنية التحتية في بعض أحيائها. إلا أن أهلها، المعروفين بالكرم والصبر، ينظرون إلى المستقبل بثقة، حاملين حلم استثمار مواردهم الغنية وتحويل مدينتهم إلى وجهة سياحية واقتصادية رائد
ساحة اشتباك ومفتاح ميداني
منذ اندلاع الحرب بين الجيش والدعم السريع في 15 أبريل 2023، برزت الأبيض كواحدة من أشد ساحات القتال ضراوة، وتقف كرمز للصمود والقدرة على البقاء، إذ شهدت معارك منذ الساعات الأولى للصراع، بسبب احتوائها على قاعدة جوية استراتيجية تُستخدم في العمليات الجوية منذ حروب الجنوب ودارفور، بالإضافة إلى مصفاة لتكرير النفط، ومرور خط أنابيب النفط الحيوي عبر أراضيها.
وكانت مدينة الأبيض، قد واجهت حصارًا خانقًا منذ الأشهر الأولى لاندلاع الحرب، ما أدى إلى انقطاع المساعدات الإنسانية، ونقص حاد في الغذاء والدواء والوقود، إلى جانب تدهور الأوضاع الصحية والمعيشية بشكل مقلق.
ويرى مراقبون أن السيطرة على الأبيض قد تُمثّل نقطة تحول حاسمة في مسار الحرب، إذ إنها تمثل بوابة للغرب السوداني، وربطاً حيويًا للمدن والطرق العسكرية.
رهان على الصمود
في هذا السياق، يؤكد اللواء المتقاعد فيصل محمد الحسن، أن المدينة راهنت على صمود قوات الهجانة التابعة للجيش، إلى جانب تحركات زعماء القبائل الذين يسعون بكل الوسائل لتجنيب المدينة مصير الدمار الكامل. كما لفت إلى أن وعي المواطنين وتحركاتهم لحماية المدينة يعكس إدراكاً جماعياً بخطورة سقوط الأبيض في يد الدعم السريع.
وبين الموقع الجغرافي الحساس، والثقل الاقتصادي والتاريخي، تُعد مدينة الأبيض إحدى أكبر القلاع المركزية التي قد يُعيد مصيرها رسم خطوط السيطرة العسكرية في إقليم كردفان وما بعده.

بؤرة إنسانية:
تزايد عدد النازحين في الأبيض جعلها مركزًا إنسانيًا بالغ الأهمية. فالمستشفيات والعيادات المحلية تستقبل يوميًا أعدادًا كبيرة من المصابين والمرضى الذين فروا من مناطق الصراع، فيما تعمل المنظمات الإنسانية المحلية والدولية على تقديم المساعدات الغذائية والإيوائية للآلاف. هذا الواقع يسلط الضوء على الدور المحوري للمدينة في تخفيف وطأة الأزمة الإنسانية، ولكنه في الوقت نفسه يضعها أمام تحديات لوجستية وخدمية كبيرة تحتاج إلى دعم عاجل.
منذ القدم، كانت الأبيض محطة حيوية في طرق القوافل التجارية بين أفريقيا والعالم العربي. وشوارعها التي تعج بأصوات البائعين وروائح البن والفول السوداني تحكي قصص قوافل اجتازت الصحراء حاملة ذهب البطولات وسلع الحكمة. وما زال سوق الأبيض الكبير شاهداً على هذا الإرث، حيث يتزاحم الزبائن على محال الحلْسة (الملابس التقليدية) والفخار والحبوب، كما كان الأجداد يفعلون.
الجيش السوداني يفك الحصار عن الأبيض بعد 22 شهرًا
أعلن الجيش السوداني، فى فبراير 2025، تمكنه من فك الحصار الذي فرضته قوات الدعم السريع على مدينة الأبيض، في عملية عسكرية نوعية أنهت عزلة استمرت نحو 22 شهرًا، وخلفت أوضاعًا إنسانية ومعيشية مأساوية.
وأوضح المتحدث الرسمي باسم القوات المسلحة، العميد نبيل عبد الله، أن “قوات محور الصياد، وبعون الله، تمكنت من فتح الطريق إلى الأبيض والالتحام مع أسود الهجانة”، في إشارة إلى القوة المرابطة داخل المدينة منذ بداية الصراع.
الأبيض تتنفس مجددًا
وفور الإعلان عن فك الحصار، شهدت مدن الأبيض وأم روابة والرهد احتفالات شعبية واسعة، عبّر فيها السكان عن فرحتهم بانتهاء العزلة، وسط أجواء من الترقب لإعادة فتح الطرق وتأمين المرافق.
ختاماً: عرش يستحق الإكبار
الأبيض ليست مدينة تُزار فحسب، بل تُفهم وتُحب. هي لغة التراب التي تتكلم بصوت الأجداد، وحكاية لا تنتهي عن الجمال والتجدد. فلنعمل معاً للحفاظ على هذه الكنزة، وفتح أبوابها لعالم يعرف قيمتها.
إن قصة الأبيض هي قصة السودان المصغر؛ قصة مقاومة وصمود أمام أعتى الظروف. إنها دعوة للنظر بعمق إلى المدن السودانية الأخرى التي تواجه مصيرًا مماثلًا، وإلى ضرورة دعمها لتبقى منارة أمل في زمن الحرب.