
تزدان شوارع مدن العالم الإسلامي كل عام بالألوان والدفوف، وتعلو أصوات المدائح التي تلهج بذكر النبي محمد ﷺ، في احتفالات تتجاوز حدود المكان واللغة لتجتمع على روح واحدة من السكينة والشوق لرؤيته وطلب شفاعته صلى الله عليه وسلم.
ويُعدّ المولد النبوي الشريف واحداً من أبرز المناسبات الدينية التي تحظى بمكانة خاصة لدى المسلمين في شتى بقاع الأرض، حيث يستحضر المسلمون خلالها ذكرى مولد الرسول الكريم محمد ﷺ، خاتم الأنبياء والمرسلين، رمز الرحمة والهداية. وتختلف طرق الاحتفال بهذه المناسبة العظيمة من بلد إلى آخر، تبعاً للتقاليد الثقافية والاجتماعية والمذهبية، لكن يجمعها خيط رفيع من المحبة والتوقير لرسول الإسلام.
طقوس تختلف وتتشابه
رغم الجدل الفقهي بين المذاهب الإسلامية حول مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، فإن مظاهره لا تغيب. فمن يزور العواصم العربية والإسلامية يلحظ الأهازيج وحلقات الذكر، ومن لم يحضرها تصل إليه صورها عبر شاشات التلفزة ومنصات التواصل الاجتماعي.
أسواق تنتعش
تتحول الساحات والأسواق في هذه الأيام إلى لوحات زاهية بالألوان والزينة، وتزدهر التجارة في الحلوى والملابس والدفوف. غير أن بعض المنتقدين يرون أن المناسبة تحولت عند بعض التجار إلى فرصة للربح المادي، كما حدث في تونس حيث قاطع البعض “الزقوقو” لارتفاع أسعاره.
جذور تاريخية
تعود بداية الاحتفال بالمولد النبوي بشكل منتظم إلى عهد الملك المظفر في أربيل، ثم انتقل التقليد إلى الفاطميين والأيوبيين والعثمانيين، واختلفت الطقوس بين توزيع الصدقات، وإنشاد الشعر والمدائح، وصولًا إلى الاحتفالات الضخمة التي يشهدها العالم الإسلامي اليوم.
السودان: بين الذكر والإنشاد
في السودان، تتزين الساحات والمساجد، وتُقام مجالس الذكر التي تمزج بين المدائح النبوية والقصائد الصوفية، والدروس المحاضرات عن سيرته أو الفقه والعبادات في جو يغلب عليه الطابع الروحاني.
وتنتشر في معظم المدن، خصوصاً أم درمان، حلقات المديح التي يجتمع فيها الناس لساعات طويلة يتغنون بسيرة الرسول الكريم ﷺ. كما يحرص السودانيون على إطعام الضيوف والجيران، في تعبير عن الكرم المرتبط بالمناسبة.

مصر: الأجواء الشعبية والموائد العامرة
في مصر، يُعرف المولد النبوي بأجوائه الشعبية المميزة، حيث تنتشر “حلوى المولد” على اختلاف أنواعها مثل عرائس المولد وحصان الحلوى التي تُعتبر من أبرز الرموز المرتبطة بالمناسبة. كما تُنظم الطرق الصوفية احتفالات كبيرة تتخللها حلقات إنشاد ومديح نبوي في الساحات والمساجد، وأشهرها احتفال مسجد الحسين بالقاهرة. ويعتبر المصريون المناسبة فرصة لإحياء الروابط الاجتماعية من خلال الولائم التي تُقام وتوزيع الطعام على الفقراء والمحتاجين.
صورة أرشيفية لرجال لبنانيين يعزفون على آلات إيقاعية ويقرعون الدفوف خلال احتفال لإحياء ذكرى المولد النبوي الشريف، في مدينة صيدا الجنوبية
المغرب: الزوايا والطقوس الصوفية
في المغرب، يحمل المولد النبوي اسم “المولد النبوي الشريف”، وهو مناسبة تحظى باهتمام رسمي وشعبي كبير. تُقام مواكب احتفالية داخل الزوايا الصوفية، حيث يتجمع المريدون لتلاوة القرآن والابتهالات والمدائح. كما تُخصص الأسر المغربية وجبات تقليدية فاخرة مثل “الكسكس” و”الطاجين”، تعبيراً عن فرحتهم بالمناسبة.
مصلون يشترون الحلوى والوجبات الخفيفة بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي في محيط ضريح حضرة نظام الدين دارغا في كشمير
تركيا: حلقات الذكر في المساجد
أما في تركيا، فتُعرف المناسبة باسم “المولد الشريف”، وتتميّز بالتركيز على الجانب الديني والتعليمي. حيث تُلقى المحاضرات والدروس في المساجد عن حياة الرسول ﷺ، وتُتلى أبيات من “قصيدة البردة” للبوصيري، كما يُوزع الطعام والحلوى على المصلين والفقراء. وتحرص العائلات التركية على الاحتفال داخل بيوتها عبر تلاوة القرآن وإحياء السيرة.
باكستان والهند: الزينة والمسيرات
في شبه القارة الهندية، يأخذ المولد النبوي طابعاً احتفاليّاً واسعاً، حيث تُزين الشوارع والمنازل بالأنوار والأعلام الخضراء. في باكستان، تُنظم مسيرات ضخمة يتخللها توزيع الطعام على الفقراء، وتُلقى الخطب في الساحات العامة عن محبة الرسول ﷺ. أما في الهند، فيُعرف المولد النبوي باسم “عيد ميلاد النبي”، ويشارك المسلمون في مواكب تضم الأناشيد والابتهالات.
سيدة مصرية داخل مصنع بالعاصمة المصرية القاهرة، تزين حلوى عروس المولد
إندونيسيا وماليزيا: المهرجانات الرسمية
في إندونيسيا، أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان، تُعتبر المناسبة عطلة رسمية تُقام خلالها مهرجانات ضخمة تضم مسابقات لتلاوة القرآن، واستعراضات ثقافية تُبرز التقاليد المحلية المرتبطة بالحدث. وفي ماليزيا، تُنظم مسيرات رسمية يحضرها كبار المسؤولين، حيث يتلو المشاركون المدائح النبوية في مشهد يجمع بين الطابع الديني والوطني.
صورة أرشيفية لرجال ونساء مصريين يشاركون في الاحتفال بالمولد النبوي
أوروبا والجاليات الإسلامية
حتى في الدول الأوروبية حيث تعيش جاليات مسلمة كبيرة، تحرص الأسر والمراكز الإسلامية على إحياء المناسبة بطرق تتناسب مع السياق المحلي. فتُقام ندوات تعريفية بالسيرة النبوية، وتوزع الكتيبات على غير المسلمين، في محاولة للتعريف برسالة الإسلام وقيم التسامح. كما تُنظم أنشطة للأطفال لتعريفهم بقيم الرسول ﷺ منذ الصغر.
رموز دينية تُزيّن سترة مسلم كردي صوفي عراقي، خلال احتفال شعائري لإحياء ذكرى المولد النبوي في مدينة عقرة الكردية، على بُعد 500 كيلومتر شمال العاصمة بغداد
خيط جامع رغم الاختلاف
وعلى الرغم من اختلاف أشكال الاحتفال بين بلد وآخر، يبقى الجامع المشترك هو تعبير المسلمين عن محبتهم العميقة للنبي ﷺ واستلهامهم لقيم الرحمة والعدل التي جاء بها. فالمولد النبوي ليس مجرد ذكرى تاريخية، بل هو مناسبة لتجديد العهد مع القيم الإنسانية التي حملها الرسول للعالم أجمع.
بهذا، يظهر المولد النبوي كمناسبة عالمية تتجاوز حدود الجغرافيا واللغة، لتؤكد أن محبة الرسول ﷺ واحدة، وإن اختلفت ألوان الاحتفال بها، فجوهرها يبقى الاحتفاء بميلاد الرحمة المهداة إلى العالمين.