
تُعد مشروعات السدود العملاقة في حوض النيل مرآةً لتعارض المصالح الوطنية بين الأمن المائي والتطلعات التنموية. وفي هذا السياق، يبرز كل من السد العالي في مصر وسد النهضة في إثيوبيا كأبرز مثالين على هذه المعادلة المعقدة، حيث يمثل كل منهما مشروعًا قوميًا يحمل أهدافًا استراتيجية متباينة، ويعكس الصراع المحتدم على الموارد المائية.
تباين الأهداف والتصميم
تم إنشاء السد العالي في ستينيات القرن الماضي بهدف جوهري وهو التحكم الكامل في تدفقات نهر النيل، مما يوفر حمايةً من الفيضانات ويزود مصر بكميات ثابتة من المياه للزراعة والاستهلاك على مدار العام، وهو ما جعله ركيزة الأمن الغذائي المصري لعقود. في المقابل، يمثل سد النهضة الذي بدأ العمل فيه عام 2011 مشروعًا طموحًا لإثيوبيا يهدف بشكل أساسي إلى توليد الطاقة الكهرومائية، لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الكهرباء وتصدير الفائض لدول الجوار، مما يضع الطاقة في صدارة أولوياته التنموية.
مقارنة فنية وإحصائية
تُظهر الأرقام فروقات واضحة في تصميم كل سد وأهدافه.
* السعة التخزينية: يتفوق السد العالي بشكل لافت، حيث تبلغ سعته الإجمالية 162 مليار متر مكعب، منها 90 مليار متر مكعب للتخزين الحي، مما يجعله واحدًا من أضخم السدود في العالم من حيث القدرة الاستيعابية. في المقابل، تبلغ السعة القصوى لسد النهضة 74 مليار متر مكعب فقط.
* إنتاج الطاقة: رغم تفوق السد العالي في التخزين، يتفوق سد النهضة في قدرته على إنتاج الطاقة الكهربائية. يضم السد العالي 12 توربينة بقدرة إجمالية 2100 ميغاواط، بينما يستهدف سد النهضة 13 توربينة بقدرة كلية 5150 ميغاواط، مما سيجعله أكبر محطة للطاقة الكهرومائية في القارة الأفريقية.
* الأبعاد الهندسية: يصل ارتفاع السد العالي إلى 111 مترًا بطول 3.6 كيلومتر، في حين يبلغ ارتفاع سد النهضة 145 مترًا بطول 1.8 كيلومتر. كما أن بحيرة ناصر خلف السد العالي هي الأضخم بمساحة 5250 كيلومترًا مربعًا، مقارنة ببحيرة سد النهضة التي تبلغ مساحتها 1800 كيلومتر مربع.
التأثيرات الاقتصادية والسياسية
لقد أحدث السد العالي تحولًا جذريًا في الاقتصاد المصري عبر تنظيم الزراعة والحد من مخاطر الفيضانات، على الرغم من تأثيره السلبي على خصوبة التربة نتيجة حجز الطمي. بالمقابل، يثير سد النهضة قلقًا واسعًا وتوترات سياسية حادة مع دول المصب، خاصةً مصر والسودان، اللتين تعتمدان بشكل كبير على مياه النيل الأزرق الذي يمثل المصدر الرئيسي لمياه النهر.
في النهاية، يرى كل طرف في مشروعه رمزًا وطنيًا: فالمصريون يعتبرون السد العالي إنجازًا تاريخيًا يعكس إرادتهم في السيطرة على مصيرهم المائي، بينما يرى الإثيوبيون في سد النهضة “مشروع القرن” الذي سيغير مسار التنمية في بلادهم. وتظل معادلة السدود في أفريقيا مرهونةً بقدرة دول حوض النيل على إيجاد حلول دبلوماسية توازن بين الحقوق المائية والأهداف التنموية، لتتحول الأنهار من مصدر محتمل للصراع إلى شريان حياة حقيقي يخدم شعوب المنطقة.