مقالات

من يحاول خطف نصر الجيش في السودان؟

متابعات _ اوراد نيوز

متابعات _ اوراد نيوز

في لحظة حساسة من تاريخ الصراع السوداني، ومع اقتراب الجيش من تحقيق حسم ميداني، تبرز مبادرات دولية قد تُهدد بتقويض الانتصار العسكري وطنيًا وسياسيًا. فالقراءات المتأنية للقاءات الرباعية الأخيرة، التي ضمت وزير الخارجية الأمريكي، تُشير إلى أن الغرب لا يسعى لسلام ينهي الحرب فحسب، بل لاتفاق يُبقي على توازن قوى هش بين الدولة والقوات المتمردة. يبدو هذا التوجه مدفوعًا بخشية الغرب من أن يتحول الانتصار العسكري للجيش إلى عقبة أمام نفوذه الدولي، على حساب الإرادة الوطنية، وذلك تحت ذريعة منع “إعادة إنتاج الحكم العسكري”.

سلام مشروط وتوازن زائف

هذا “السلام” المقترح ليس بريئًا، فهو لا ينطلق من الحقائق الميدانية بقدر ما يراعي حسابات النفوذ ويعيد إنتاج نفس التوازنات التي أدت إلى اندلاع الحرب . هنا، يبرز تساؤل مؤلم: هل يمكن بناء سلام عادل دون الاعتراف بمن انتصر ومن انهزم؟ وهل يُطلب من الجيش، الذي حقق الانتصار في الميدان، أن يتساوى سياسيًا مع من تمرد على الدولة وارتكب فظائع بحق المواطنين؟

خلفيات التحرك الدولي و”السلام الناقص”

نسعى هنا إلى الغوص في أبعاد التحرك الدولي وتفكيك منطق “السلام الناقص” وتأثيراته على مستقبل السيادة والانتقال المدني في السودان. تتسارع مبادرات الرباعية الدولية لإنهاء الحرب، ولكن رغم شعاراتها الإنسانية، تبدو هذه المبادرات متأثرة بالمصالح السياسية والأمنية.

تتولى الرباعية، وهي مجموعة دول تنسق المسار السياسي والدبلوماسي في السودان، دورًا مركزيًا في صياغة تسوية قد لا تتوافق بالضرورة مع المصلحة الوطنية أو الإرادة الشعبية السودانية. المثير للقلق هو أن هذه الأطراف، لا سيما الغربية منها، تتحدث عن أن الحسم العسكري الكامل لصالح الجيش قد يؤدي إلى “إعادة إنتاج الحكم العسكري”، وفقًا لبعض مراكز التفكير الأمريكية. يتجاهلون بذلك خطوة تعيين رئيس وزراء مدني بصلاحيات واسعة، وهي الخطوة التي رحب بها الاتحاد الأفريقي والقوى السياسية السودانية الفاعلة، باستثناء القليل المرتبط بأجندات خارجية.

نصر عسكري ممنوع من الشرعية السياسية

يُقاتل الجيش السوداني وحده ويُحاسَب وحده، ومع ذلك، يُراد له ألا يترجم نصره إلى شرعية سياسية. هذا الموقف يُعيد إلى الأذهان نماذج سابقة في المنطقة: انتصارات ميدانية تُعطلها صفقات “ناعمة” تحفظ للمتمردين مكانة شكلية في “السلام”، وتفتح لهم أبواب السلطة تحت مسمى “الشمولية السياسية”.

السؤال الذي يتجنبه صانعو هذه الصفقة هو: هل يمكن بناء سلام حقيقي بالتسامح مع الانتهاكات؟ وهل الهدف إخماد الحرب أم ترسيخ ازدواجية الدولة؟

توازن وهمي وحسابات أجنبية

عندما تتكثف الدعوات الدولية للسلام في لحظة يتقدم فيها الجيش ميدانيًا، فإن الأمر لا يبدو بريئًا سياسيًا. ظلت الرباعية، بقيادة واشنطن، تتعامل مع مليـ شيا الدعم السريع كطرف سياسي لا كمجموعة متمردة، على الرغم من فظائعها الموثقة. عندما مالت موازين القوى لصالح الجيش السوداني، انخفض السقف الدولي فجأة من دعم “الانتقال المدني” إلى المطالبة بـ”وقف إطلاق نار عاجل”.

كما فرضت واشنطن عقوبات على السودان بزعم استخدام الجيش أسلحة كيميائية، بناءً على تقرير صحفي. هذا التغير في الخطاب والتكتيك يكشف ضمنيًا عن اعتراف دولي غير معلن بهزيمة التمرد ميدانيًا. فمليـ شيا الدعم السريع، التي سيطرت على مناطق واسعة في بداية الحرب، تتأرجح الآن في جيوب معزولة وتعتمد في بقائها على حرب المدن والقصف العشوائي الذي لا يغير الواقع العسكري.

ومع ذلك، لا تُترجم هذه الهزيمة في الخطاب السياسي الغربي، بل يُعاد تأهيل الملـ يشيا سياسيًا عبر المطالبة بإشراكها في التسوية، بحجة أنها “طرف فاعل” لا يمكن تجاوزه. الأخطر من إعادة تأهيل التمرد هو أن هذا الإقرار المبطن بالهزيمة لا يُبنى عليه موقف واضح لصالح الدولة، بل يُستغل للضغط على الجيش لتقديم تنازلات سياسية تُفرغ انتصاراته من مضمونها السيادي.

هل يُراد للجيش الانتصار ليُمنع من حماية الدولة؟

هل يُراد للجيش أن ينتصر فقط ليُمنع من حماية الدولة؟ أم أن الغرب يخشى نهاية الحرب أكثر مما يخشى استمرارها، لأن النهاية تعني أن أحد الطرفين سيفرض واقعًا جديدًا لا يخضع للإملاء الخارجي؟ في كثير من النزاعات، يكون السلام تتويجًا للنصر، لكن في الحالة السودانية، يبدو أن هناك من يسعى إلى فصل المسارين قسرًا: أن يتوقف القتال دون الاعتراف بانتصار طرف على آخر، وأن تُفرض على الدولة مصافحة من حمل السلاح ضدها دون شروط.

هذا هو جوهر “السلام الناقص” الذي تدفع به بعض العواصم الغربية عبر الرباعية. سلام يُطلب فيه من الجيش أن يوقف المعركة وهو في موقع القوة، ويقبل بتسوية تُعيد دمج عناصر التمرد في المشهدين السياسي والعسكري، بحجة “الاستقرار”.

أخطر ما في هذه المعادلة هو محاولة فرض توازن سياسي وهمي على حساب الحقائق الميدانية. فالدعوات لإشراك الدعم السريع في مستقبل الحكم لا تأتي احترامًا لمطالب شعبية، بل تلبية لاعتبارات خارجية تخشى أن تتحول سيطرة الجيش إلى مشروع حكم وطني يصعب التحكم فيه من الخارج. وهكذا يتحول النصر إلى عبء، والانتصار إلى خطر يجب احتواؤه، لا ترجمته.

سلام لا ينهي الحرب بل يجمدها

لكن هذا المنطق يهدد بتكرار الكارثة: كيف يمكن بناء سلام حقيقي مع مليـ شيا ارتكبت تطهيرًا عرقيًا؟ كيف يُطلب من الضحايا أن يتعايشوا مع الجناة باسم “الحل السياسي الشامل”؟ وهل تُبنى دولة القانون على قاعدة اللاعقاب والمساواة الزائفة بين الدولة والتمرد؟ هذا النوع من السلام لا ينهي الحرب، بل يجمدها في صيغة “لا غالب ولا مغلوب”، تمهيدًا لجولة قادمة من الحرب .

النصر العسكري: فخٌّ إذا لم يُترجم سياسيًا

إن النصر العسكري، حين لا يجد ترجمته السياسية، يصبح فخًا. فالجيش السوداني، الذي قاتل وحده في مواجهة تمرد مسلح متوحش ومدعوم خارجيًا، لم يكن يدافع عن نفسه فقط، بل عن كيان الدولة ومؤسساتها وسيادتها. وبالتالي، فإن حرمان الجيش من ثمرة هذا النصر – بحجة التوازن أو “اللامركزية السياسية” – لا يعني سوى تقويض سلطة الدولة الوطنية لحساب مراكز نفوذ مليـ شياوية أو محمية خارجيًا.

نتائج كارثية لـ”النصر غير المكتمل”

فرض “نصر غير مكتمل” على الجيش يحمل ثلاث نتائج كارثية:

  • إضعاف المؤسسة العسكرية معنويًا وسياسيًا: كيف يُطلب من جيش قدّم آلاف الشهداء أن يقبل تسوية تساوي بينه وبين من حاربه؟ كيف يُطالب بالصبر على حماية شعبه، ثم يُمنع من حصد شرعية حماية الشعب؟
  • تفريغ التحول المدني من مضمونه: إذ لا يمكن الحديث عن تحول ديمقراطي حقيقي في ظل وجود مليشيات خارج المؤسسة العسكرية الرسمية، ولا بوجود “شركاء سلام” لا يؤمنون بالدولة إلا إذا كانت ضعيفة.
  • إضعاف ثقة الشارع في العملية السياسية: فالجمهور السوداني الذي دعم الجيش واستنفر أبناءه لجانبه؛ رفضًا للفوضى والقتل والاغتصاب، سيشعر بأن تضحياته ذهبت سدى إذا أُعيد دمج الجناة في السلطة.

إن أخطر ما في هذا النصر غير المكتمل، أنه لا يؤسس لسلام، بل لتعايش هش بين قوة تقاتل من أجل الدولة، وأخرى تستفيد من بقاء الدولة على شفا الهاوية.

الرباعية: دور مشبوه وتجربة فاشلة

في الوقت الذي تتسارع فيه المبادرات الغربية لفرض تسوية تُبقي على جزء من التمرد ضمن بنية الحكم، تتصاعد في الداخل السوداني أصوات تحذر من مصادرة القرار الوطني باسم “الحل الدولي”. فالتوازن الحقيقي ليس بين الجيش ومليـ شيا الدعم السريع، بل بين رغبة الداخل في سلام يعيد للدولة هيبتها، وبين رغبة الخارج في تسوية تحفظ النفوذ وتبقي البلاد تحت الوصاية الناعمة أو الفجة. هذه الفجوة بين الداخل والخارج تتجلى بوضوح في الخطاب السياسي:

  • القوى الوطنية المستقلة ترفض أي مشروع يعيد دمج مليـ شيا الدعم السريع، وتطالب بسلام قائم على المحاسبة ونزع السلاح وتفكيك المليشيات.
  • الشارع السوداني الذي دفع ثمن الحرب من روحه وجسده، يدرك أن أي تسوية لا تعترف بمن انتصر ومن خان، ستكون مجرد هدنة قبل انفجار جديد.
  • بينما تواصل الرباعية الدولية الترويج لفكرة السلام “الشامل” الذي لا يُقصي أحدًا، حتى وإن كان هذا “الأحد” هو الجلاد.

وهنا يطرح الواقع سؤالًا لا يمكن تجاهله: هل أصبح القرار السياسي السوداني رهينة لموازين القوى الدولية؟ أم أن اللحظة الراهنة تستدعي جبهة وطنية عريضة تعيد التفاوض من موقع القوة، لا من تحت سقف الابتزاز الدبلوماسي؟ إن من يُريدُ السلام حقًا، يجب أن يسأل أولًا: سلام مع من؟ وعلى أي أساس؟ لأن السلام ليس نزع سلاح فقط، بل استعادة معنى الدولة.

احذروا عودة الرباعية للواجهة

إن الرباعية، التي نشأت عمليًا عقب سقوط نظام البشير في 2019، دون تفويض شعبي أو دولي واضح، رفعت شعار: “دعم الانتقال الديمقراطي”، لكن تجربتها عكست مقاربة فوقية، سعت إلى فرض ترتيبات سياسية لا تنبع من الداخل السوداني، بل من حسابات إقليمية ودولية.

نائب وزير الخارجية الأميركي يجتمع بسفراء السعودية ومصر والإمارات بشأن السودان
نائب وزير الخارجية الأميركي يجتمع بسفراء السعودية ومصر والإمارات بشأن السودان

تاريخ الرباعية يشي بميلها إلى استثمار الهشاشة السياسية في السودان، خاصة خلال فترة حكومة عبد الله حمدوك، التي لم تحظَ بتفويض انتخابي، مما فتح الباب أمام تدخلات مباشرة في الشأن السوداني، أبرزها دعم مشروع “دستور المحامين” الذي وُجهت له انتقادات؛ لكونه يكرس هيمنة نخبوية مدنية غير توافقية، ويمهد الطريق لتدخلات أجنبية تحت غطاء قانوني سياسي. كما كان للدعم الذي حظي به الاتفاق الإطاري من قبلها – والذي ساوى بين المؤسسة العسكرية ومليشيا الدعم السريع – دورٌ كبير في خلق حالة من الانقسام الحاد داخل الساحة السياسية السودانية، وهو ما رأته تقارير حقوقية مثل “هيومن رايتس ووتش” تهديدًا لاستقرار الدولة ووحدتها.

السلام الحقيقي من الداخل لا من العواصم

إن الحل الحقيقي لا يمكن أن يُفرض من الخارج، ولا يولد من رحم تسويات جزئية مفروضة، بل من حوار وطني شامل، ينطلق من الداخل، ويشارك فيه كل مكونات المجتمع. سلامٌ يعيد هيكلة العلاقة بين المدنيين والعسكريين على أسس وطنية، لا على إملاءات دولية.

ويجب أن يكون هذا السلام قائمًا على:

  • نزع السلاح من المليشيات.
  • دمج من تنطبق عليه الشروط في القوات المسلحة وفق قانونها.
  • محاسبة من تورط في جرائم أو انقلابات.
  • استعادة ثقة الشارع في مسار وطني حقيقي، لا شراكة وهمية مع من قادوا البلاد إلى الهاوية.

الخلاصة أن السيادة لا تُهدى، بل تُنتزع. فلم يعد السودان تلك الحديقة الخلفية التي تعبث بها الأيدي الأجنبية. لقد تغير الزمن، وتغير الوعي. وإذا كانت الرباعية تريد أن تكون فاعلًا إيجابيًا، فعليها أن تدعم خيارات الشعب لا أن تصادرها، وأن تعلي من شأن الدولة لا أن تساويها بالتمرد.

السلام لا يُبنى على التغاضي، ولا على التجميل السياسي للجراح. السلام الحق هو الذي يستند إلى العدالة، ويعيد الاعتبار للدولة، ويمنح الأمل للمواطن بأن دماء أبنائه لم تذهب سدى. فإما سلام يعيد للسودان سيادته، أو تسوية تعيد إنتاج أزمته.

profile picture

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى