
في سوق عكاظ السياسة السودانية، بكقر استخدام عبارة “دولة المواطنة”.. ويقصد بها التساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات.. ولأنها عبارة لا تعدو كونها شعارا مجانيا لا يلزم سياسيا ولا حزبا .. فارغة المضمون من المتوى العملي الملموس ، فلا يخلو منها بيان أو اتفاق، وفي خاطر الساسة أنهم بذلك يرضون المواطن ويعلون من شأنه.
ما معنى “دولة المواطنة”؟ ان كان المواطن لا يستطيع أن يرفع صوته أو مطالبه الا باغلاق الطرق أو تحطيم الممتلكات العامة.. او استخدام العنف الدمو..
في علوم الكمبيوتر نستخدم المصطلحات المعبِّرة عن العلاقة بين المكونات، ومن هذه المصطلحات “واحد مقابل واحد” أو “رأسا برأس” Peer To Peer ونختصرها في P2P. وتعني التواصل المباشر بين الكمبيوتر وكمبيوتر آخر دون الحاجة للجهاز الرئيس Server.
في إدارة الدولة، العلاقة بين الحكم في مستوياته المختلفة مع المواطن يجب أن تقوم على مبدأ “واحد مقابل واحد” دون الحاجة لوساطة الجهوية أو القبلية أو الإدارة الأهلية أو الطرق الصوفية أو حتى لجنة الخدمات والتغيير بالحي.
في السنوات الأخيرة ؛ ارتفعت حُمى الاستخدام المفرط للمكوِّنات المجتمعية، خاصة القبيلة، في التخاطب مع السلطة وتبع ذلك استشراء حالة العنف المدني مثل الاعتصامات والإضرابات وإغلاق الطرق ثم تطوَّر الأمر لإغلاق إقليم الشرق كله حتى الموانئ بأمر القبيلة.
هذا الوضع هو نتاج انقطاع العلاقة المباشرة بين الدولة والمواطن، فالمواطن الذي يئن تحت وطأة ظروف بالغة السوء خاصة في الاقتصاد وشح الخدمات الأساسية مثل: الكهرباء والماء والدواء، لا يستطيع التخاطب المباشر مع السلطة في مختلف درجاتها مهما كانت ظروفه أو تظلمه، على الرغم من أن السلطة في حال المغرم إذا عجز أو امتنع المواطن عن سداد رسوم أو عوائد فهي قادرة على استصدار “أمر القبض”على المواطن مباشرة وباسمه الرباعي، بل وتعاقبه بالإجراءات حتى دون الحاجة للمثول أمام القضاء.
هذه العلاقة المختلة بين السلطة والمواطن تفرز غياب الثقة في كل ما هو رسمي، وأخطر من ذلك تهدر الولاء للوطن، فالسلطة تمثل الوطن في شؤون السيادة والعمل التنفيذي، مما يعقِّد مهام الحكم نفسه عندما يواجه بيئة مواطنة ممانعة لا تقبل التعاون إلا بقهر السلطة والتسلط.
خلال تجربتي القصيرة عندما فكرت جهراً في تأسيس حزب سياسي، دُهشت من كثرة النُظار والعمد والمشائخ الذي اتصلوا بي وزاروني ومنهم من يحمل خطابات ممهورة بتوقيعات غريبة تثبت أنهم يمتلكون آلاف المواطنين ممن ينتمون للقبيلة أو الجهة أو المنظمة. كان واضحاً أن أرقام أعداد المواطنين هي بضاعة مزجاة في سوق السياسة، وكنت أسألهم بصورة صريحة، هل فوضكم كل هؤلاء الآلاف من المواطنين في منطقتكم أو قبيلتكم باتخاذ القرار نيابة عنهم، حتى في الخيارات السياسية التي يجب أن تعبر عن المواطن لا عن سيد القبيلة أو الطريقة أو المنظمة؟
الذي منح الرواج لتسويق ملكية القبيلة لإرادة المواطنين هو خلل عِقد العلاقة بين السلطة – في مختلف مستويات الحكم – والمواطن.
الصراعات الدموية بين القبائل في مختلف أنحاء السودان تنشأ من خلل العلاقة التي تجعل المواطن يائس من قدرته الذاتية على تغيير نمط حياته والاستجابة لطموحاته، فيرتمي كلياً في حضن الإرادة البابوية للقبيلة، فيخوض المعارك الدموية ويقتل ويُقتل دون أن يحسب أين مصالحه.
المصدر : التيار