
بعد أن دُفعت البلاد إلى حرب وجودية دمّرت العمران، وشردت الملايين، وسحقت كرامة المواطن السوداني تحت ركام النزوح وضياع الأمل، فإن أحدًا لن يقبل، بعد كل هذه الكلفة الباهظة، أن يكون مآل الدولة مزيدًا من الفساد أو تغوّلاً للمصالح الخاصة على حساب تضحيات الشعب الصامد.
لم يعد مقبولًا، بأي معيار وطني أو أخلاقي، أن تستمر مؤسسات الدولة رهينة للفساد، بعد أن قدّم السودانيون أرواح أبنائهم دفاعًا عن الوطن، وتحملوا صنوفًا من البؤس والضيق، لا لأنهم يجهلون حقوقهم، بل لأنهم انتظروا أن ترتقي قياداتهم إلى مستوى اللحظة التاريخية، وتبني وطنًا يعكس ثمن هذه التضحيات.
الواقع أن الحديث عن الفساد لم يعد حكرًا على النخب أو مقتصرًا على الدوائر المغلقة، بل أصبح موضوعًا يوميًا في المجالس العامة، ومنشورًا في كتابات الصحفيين، كثير منها مبني على وثائق أو معلومات مؤكدة، حصل عليها الصحفيون عبر جهود استقصائية أو تسريبات من داخل مؤسسات عليا.
وفي جميع الأحوال، فإن هذه الكتابات لا يجوز التعامل معها بالاستخفاف أو التأجيل، لأنها تقع في صميم المسؤولية المهنية والقانونية، خاصة في ظل وجود قوانين تنظم الصحافة والنشر وتُلزم بالتوثيق والمصداقية.
ومع غياب السلطة التشريعية التي تمارس الرقابة والمساءلة، باتت الصحافة السودانية تتحمل هذا العبء المضاعف، حيث أصبحت تؤدي دورًا مزدوجًا؛ تنقل صوت الناس، وتراقب أداء الدولة، رغم ما تواجهه من تحديات معلومة. غير أن هذا الدور المتقدم يتطلب وعيًا وطنيًا عاليًا، وانتباهًا لخطورة الانجرار خلف حملات التضليل والإشاعات التي قد لا تكون بريئة، بل جزءًا من صراع نفوذ او اداة من ادوات حرب العدو، يهدف إلى تفكيك الجبهة الداخلية وبث الإحباط واليأس في نفوس المواطنين.
من هذا المنطلق، فإن التعامل مع ما يُتداول من معلومات واتهامات يجب أن يتم بعين فاحصة، تميّز بين النقد المسؤول وبين محاولات التصيّد والتشويش التي قد تستغل بعض المنصات الإعلامية لنقل روايات غير موثوقة، أو لتصفية حسابات سياسية، وهو ما يشكل خطرًا حقيقيًا على استقرار الدولة وتماسكها.
ولكي نقطع الطريق على كل هذه الممارسات، ونشرع في بناء دولة حقيقية قائمة على العدالة والشفافية، لا بد من الإسراع في إنشاء مفوضية مكافحة الفساد واسترداد الأموال العامة، وهي المؤسسة التي نصّت عليها الوثيقة الدستورية المعدلة لعام 2025 في مادتها (39). هذه المفوضية تمثل حجر الأساس في استعادة ثقة المواطنين في مؤسسات الحكم، ويقع على رئيس مجلس الوزراء، الدكتور كامل إدريس، مسؤولية إعلان قيامها فورًا، وتعيين أعضائها وفق ما نصت عليه الوثيقة.
إن هذه الخطوة أصبحت ضرورة وطنية لإنقاذ ما تبقى من الدولة، ولتوجيه رسالة قاطعة إلى الفاسدين بأن زمن الإفلات من العقاب قد ولى. تأخير قيام المفوضية قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة، بينما الشروع في تأسيسها، مع منحها صلاحيات حقيقية، سيكون هو البداية لاستعادة دولة القانون وتحقيق العدالة الاجتماعية.
ويجب أن تُمنح المفوضية الحق الكامل في التحقيق في كل ما يثار من ادعاءات، وتمييز الصحيح من المفبرك، ومحاسبة المتورطين أيًّا كانت مواقعهم أو حصانتهم، بما يعيد الاعتبار لفكرة الدولة ومؤسساتها، ويكرّس مبدأ سيادة القانون على الجميع دون استثناء.
تجارب الدول من حولنا تثبت أن لا استقرار ولا تنمية دون مساءلة حقيقية ومؤسسات رقابية مستقلة. رواندا، التي خرجت من واحدة من أبشع المآسي في التاريخ الحديث، اختارت بوضوح طريق المحاسبة ورفض الفساد، فأنشأت بنية رقابية فعالة، وتحولت خلال سنوات إلى واحدة من أكثر دول القارة استقرارًا ونموًا. وفي سياق مختلف، انتهج المغرب إصلاحًا مؤسساتيًا عميقًا ركّز على استقلال القضاء وتعزيز الشفافية، ما مكّنه من تحسين صورته في مؤشرات النزاهة والاستثمار.
هذه التجارب تؤكد أن نقطة الانطلاق يجب أن تكون من مواجهة الفساد بجدية وبُعد نظر. أما تأجيل هذا الملف تحت أي ذريعة—أمنية كانت أو سياسية—فلن يكون سوى وصفة مكررة لإعادة إنتاج الفشل والانهيار، وربما بصيغ أشد قسوة وتعقيدًا.
سيدي الرئيس، بحسب #وجه_الحقيقة، لا أحد يطلب المستحيل. كل ما يُرجى هو أن تُدار البلاد في وضح النهار، وأن تكون شؤون الدولة مكشوفة وواضحة كالشمس، بلا خفاء ولا تحايل ولا طمس للتضحيات. كما يجب ألا يُسمح، باسم حرية التعبير أو تحت غطاء المنابر المفتوحة، أن يُستخدم الخطاب الإعلامي في إضعاف الدولة أو نشر الوهن في مؤسساتها.
المرحلة المقبلة لا تحتمل التسويف ولا المراوغة؛ فإما أن نكون أمام دولة قانون ومؤسسات فاعلة منتبهة ، أو نُساق مجددًا إلى مربع الانهيار.
دمتم بخير وعافية.
الأحد 7 أغسطس 2025م Shglawi55@gmail.com