
كنت أحطّ رِكابي من سفرٍ طويل عندما اقتحمت عيني شاشة حمراء تحمل نعيَّكَ إلينا مع رفاقك، فلعنتُ قاتليكَ قبل أن أترحّم عليك، ولم أفطَن إلى الدعاء لك من هول ما أصابنا بك وبإخوانك.
ثم هرعتُ أبحث عن صورتك الأخيرة، وكنتُ أعلم أن أمثالك لم تكن صورتهم الأخيرة لتغيب عن عيون الكاميرات السابحة في المكان، فلمّا لم أجد صورة لوجهك ولا يدك ولا صدرك في الشاشة التي تبزغ منها كلماتُك كلّ يومٍ علِمتُ أنّ نار الأوغاد قد أحرقت صورتك وأذابت هيئتك، بل لم أجد أيّاً من حروف press الزرقاء على بدنك المحروق.
كنتُ أعلمُ أن دم الذبِيح الثَّجّ لا يكون كدم الجريح أحمر أو كدم الراعف أو المفصود الثاعب، لأنّ النفس تكون خارجةً معه، وقد رأيتُ دمَك خِمَاراً نَجِيعاً مسودّاً قد خالطه التراب الذي كنتَ تسكن عليه، وقد استحالَ النجِيعُ إلى أوراق من العلَق المقطَّع المُلَبَّد الذي يأبَى التسرّب إلى مسام الأرض.
أتذكّركَ يوم كنتَ أول أمرك متدرّباً مُعاوِناً رفعوك إلى مرتبة المراسل المتعاون في موضع لا يكون فيه إلا الكبار، فقد اختارك محلُّك، وقدّمك ميدانُك، وشفعت لك جرأتُك، وما لبثتَ أن تعلَمتَ على مدار الأحداث لا الأيام، وكلما زادت أحداثك تضاعفت أيامُك، وتسارع عمرُك، وتناقص أجلُك أيضاً، فقد كانت الأحداث أسرع من الأوقات وأكبر وأوْعَب وأطْوَى، ثم تعود الأحداث الكبارُ إلى مسمّاها لتكون أيّام الله.
لقد شاء الله يا أنسُ أن تكون لساناً شاهداً وكتاباً مسطوراً، وكلّنا كان يعلم أنّك راحلٌ، كما كنتَ تعلم ذلك عن نفسك، فقد أدّيتَ ما عليكَ وأنت قائمٌ، وكنتَ نِعْمَ المُصَلَّى، ثمّ خَتمَتْ دماؤك طيّاً من المراحل، وافتتَحَتْ لنا طيّاً آخر على مثالكَ، فإن أسفار الأيام العظيمة تخطّها الكثير من أقلام الشرف.
واحَرّاهُ أيها الأنَسُ الأشرف، ولكننا لن نحزن فوق حزننا الكبير الثقيل، لأن ثاراتنا تكبر، وهي ترتفع إلى سقوف أثقل وأغلظ لن تُسمَع عندها أصوات المَرحمة في يوم الانتقام المشهود، وسيعلم الأوغاد أنّ أرض الوغى إذا كثُرت فيها الدماء لن تسمع لحصاةٍ وقَعَتْ عليها في يوم الحصاد صوتاً.
د. أسامة الأشقر