مقالات

مغامرة الدعم السريع .. حكومة على فوهة البندقية

في تحول دراماتيكي يراهن على المستقبل، أعلنت قوات الدعم السريع، التي يقودها محمد حمدان دقلو “حميدتي”، عن تشكيل حكومة مدنية في المناطق التي تسيطر عليها، وتعيين حكام للمناطق التي لا تسيطر عليها!

فجرت هذه الخطوة موجة من الجدل بين مؤيدين ومعارضين، خصوصا أنها تمت في وقت تتقاذف فيه الأمواج العاتية قوات الدعم السريع. وقد اعتبر كثيرون الخطوة أنها محاولة انفصالية تمهد لتقسيم السودان، وتمثل “مغامرة سياسية”، توازي خطورتها كل ما يحدث على الأرض.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه: أهي إستراتيجية حقيقية لإعادة البناء، أم مجرد قفزة في الفراغ؟

رغم أن الوضع الإنساني الكارثي لا يزال هو السمة الغالبة على المناطق المتأثرة، فإن ما أعلنه “حميدتي” من حكومة جديدة أشعل سجالات بين مؤيدين ومعارضين داخل السودان

منذ اندلاع الحرب بين الجيش والدعم السريع في أبريل 2023، دخل السودان مرحلة من الفوضى العارمة، وتم تدمير الهيكل الإداري والاقتصادي والبنية التحتية للدولة، وبدأت الانقسامات تنمو بسرعة بين القوى السياسية المختلفة، التي وجدت نفسها عاجزة أمام الموقف المتأزم.

في خضم هذا الدمار، سعت قوات الدعم السريع إلى توسيع رقعة سيطرتها، وفيما كانت تخسرالنفوذ العسكري والسياسي أطلق “حميدتي” مشروعه لتشكيل حكومة انتقالية في المناطق التي يسيطر عليها، بهدف شرعنة سلطته العسكرية وتوسيع قاعدة الدعم الشعبي له.

وبينما زعم أنه يهدف لتقديم نموذج إداري محلي يخفف من معاناة الناس، كانت هذه الخطوة تمثل في حقيقتها محاولة لتوسيع نفوذه على حساب الجيش والدولة.

ورغم أن الوضع الإنساني الكارثي لا يزال هو السمة الغالبة على المناطق المتأثرة، فإن ما أعلنه “حميدتي” من حكومة جديدة أشعل سجالات بين مؤيدين ومعارضين داخل السودان؛ ففي حين يرى مؤيدو الدعم السريع أنها خطوة مفصلية لاستعادة الدولة من براثن النزاع العسكري، يراها آخرون محاولة لفرض السيطرة على السودان بقوة السلاح.

الأمم المتحدة والجامعة العربية ومجلس حقوق الإنسان والاتحاد الأفريقي والإيغاد، شددوا على الرفض القاطع لفرض قوات الدعم السريع كسلطة أمر واقع، أما أميركا والاتحاد الأوروبي فقد أكدا في تصريحات متزامنة على أن أي حكومة تدعمها مليشيا متهمة بجرائم حرب لن تحظى بالاعتراف

محاور مشتعلة ومطامع إقليمية

على الصعيد الإقليمي والدولي، هناك دول إقليمية تساند قوات الدعم السريع، وترى في “حميدتي” لاعبا رئيسيا يمكنه تحقيق التوازن في منطقة البحر الأحمر، التي تشهد صراعات متجددة، ورأت في تحركاته فرصة لتعزيز نفوذها في المنطقة، لا سيما أن السودان يمثل نقطة وصل مهمة في الجغرافيا السياسية (الجيوبوليتيك) للمنطقة العربية والأفريقية، ولكن هذه الدول لم تؤيد بشكل واضح خطوة الحكومة البديلة.

في المقابل، يرى الاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيغاد أن هذه الخطوة تمثل تهديدا لتماسك الدولة السودانية، يفتح الباب أمام سيناريوهات تشظٍ تشبه ما جرى في الصومال وليبيا.

هذا، بينما تعتبر دول أخرى، مثل مصر والجزائر، أن الإعلان عن الحكومة الجديدة يمثل تهديدا لسلامة السودان ووحدته، خصوصا مع قلقها من أن يؤدي الانقسام في السودان إلى تأثيرات سلبية على الأمن الإقليمي، خاصة في ملف الهجرة والنزاعات الحدودية، وهناك خشية كبيرة من أن يفتح هذا التوجه الباب أمام تداعيات شديدة الخطورة على باقي دول القرن الأفريقي.

أما على الساحة الدولية، فقد كانت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي في حالة ترقب شديد؛ ففي الوقت الذي أبدت فيه بعض القوى الغربية، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، قلقا من التوسع العسكري لقوات الدعم السريع، فإنها تُحجم عن اتخاذ خطوات فعالة لوقف هذه المغامرة؛ خشية أن يؤدي التدخل المباشر إلى مزيد من التصعيد، خصوصا في ظل حالة الانقسام السياسي التي يعاني منها المجتمع السوداني.

فالأمم المتحدة والجامعة العربية ومجلس حقوق الإنسان والاتحاد الأفريقي والإيغاد، جميع هذه الأطراف شددت على الرفض القاطع لفرض قوات الدعم السريع كسلطة أمر واقع، أما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فقد أكدا في تصريحات متزامنة على أن أي حكومة تدعمها مليشيا متهمة بجرائم حرب لن تحظى بالاعتراف، ولوّحا بفرض عقوبات على من يسهلون استمرار سيطرة الدعم السريع في مناطق معينة.

وهذا الرفض الواسع لفكرة الحكومة البديلة، ستنتج عنه عزلة سياسية متزايدة للدعم السريع، ومعه سيتعذر عليها إقامة أي علاقات دبلوماسية، أو الحصول على أي تمويل لحكومتها الجديدة.

كما أنه سيعرقل خطط تقسيم السودان، ويُضعف أي طموح لانفصال فعلي لمناطق غربي السودان، وسيساهم في تعزيز موقف الجيش في المحافل الإقليمية، وتحسين موقفه في أي مفاوضات مستقبلية.

بالنسبة لمعظم الشعب السوداني، فإنه يعيش في بيئة شديدة التعقيد، وتحت ضغط ظروف حياتية قاسية؛ حيث الخدمات مفقودة والاقتصاد الكلي والمدخول الفردي في تراجع

القشة التي قصمت ظهر البعير

في الداخل، كانت خطوة تشكيل الحكومة بمثابة “القشة التي قصمت ظهر البعير” بالنسبة للكثير من الأحزاب السياسية السودانية، فقد وجدت الأحزاب التي شاركت في “قوى الحرية والتغيير” نفسها في موقف محرج؛ بين مؤيد للتفاوض مع الدعم السريع حفاظا على ما تبقى من الدولة، ومعارض لخطوة تشكيل الحكومة الموازية، التي اعتبرها تجاوزا للثوابت الوطنية.

حتى الأحزاب في صفوف المعارضة شهدت انقسامات حادة، ففي حين رأى البعض في خطوة الدعم السريع محاولة للمساومة على السلطة، حذر آخرون من تبعات هذه الخطوة في حال استمرار الوضع على هذا النحو.

وحركات الكفاح المسلح، التي شاركت في اتفاق جوبا للسلام، كانت هي الأخرى في موقف صعب… بعض من هذه الحركات المتحالفة مع الدعم السريع اعتبرت الحكومة المعلنة من قبل الدعم السريع خطوة إيجابية في إطار الحفاظ على الأمن الداخلي، لكن أغلب الحركات الكبرى رفضت المشروع بشكل قاطع، مؤكدة أنه يعكس نية لتوسيع النفوذ العسكري على حساب أي عملية محتملة للسلام.

وبالنسبة لمعظم الشعب السوداني، فإنه يعيش في بيئة شديدة التعقيد، وتحت ضغط ظروف حياتية قاسية؛ حيث الخدمات مفقودة والاقتصاد الكلي والمدخول الفردي في تراجع.

لكن مع ذلك، فإن إعلان حكومة الدعم السريع الموازية لم يكن بالنسبة له سوى إعلان آخر من سلسلة طويلة من التحركات السياسية الفاشلة، التي لم تكن تأخذ احتياجات الشعب الحقيقية في الاعتبار، وتمثل امتدادا للفوضى العسكرية التي تسببت في قتل المئات وتهجير الآلاف.

لا بد من الإشارة إلى أن رفض المؤسسات الدولية والإقليمية لتشكيل حكومة الدعم السريع (وهو رفض مزدوج)، ولرمزية الانتهاكات التي ارتكبتها هذه القوة في حق السودانيين، هو رفض يعكس تمسكا بالمبادئ لا بالمصالح فقط، ويؤسس لمسار طويل من الضغط والعزل السياسي

تعميق الانقسام

من منظور علم الاجتماع، أي حكومة تستمد شرعيتها من قبول المجتمع لها عبر التعاقد الاجتماعي، أو عبر الرضا العام والتمثيل الشعبي. وفي حالة حكومة الدعم السريع الموازية، فإن شرعيتها هي “شرعية القوة” لا “شرعية العقد الاجتماعي”؛ حيث جاءت نتيجة لاستخدام السلاح وفرض السيطرة على مناطق معينة، لا نتيجة انتخاب أو توافق سياسي مجتمعي، مما يضعف قبولها اجتماعيا.

فالمجتمعات التي تنهار فيها مؤسسات الدولة المركزية تميل إلى خلق سلطات بديلة (مليشيات، قادة تقليديين، جماعات إثنية)؛ وهو ما ينطبق على حالة الدعم السريع، حيث تحولت من قوة شبه نظامية إلى كيان يسعى لبناء حكومة مستقلة، مستفيدا من الفراغ السياسي.

تشكيل الحكومة على أسس إثنية أو جغرافية أو عسكرية يعمق الانقسام الاجتماعي، ما يؤدي إلى تفتيت النسيج الوطني، ويزيد من احتمالات الصراع، ويصعِّب التعايش في المدى البعيد.

ووجود حكومة تنبع من كيان عسكري متمرد يعزز ما يسميه علماء الاجتماع “مأسسة العنف”، أي تحويل القوة المسلحة إلى أداة حكم يومي، وهذا يؤدي إلى تطبيع العنف وغياب القانون، واستمرار النزاع كوسيلة لحسم الصراع، بدلا من الحوار أو المؤسسات الديمقراطية.

وغالبا ما تلجأ مثل هذه الحكومات إلى تحالفات محلية ضيقة، تقوم على أساس الولاء لا الكفاءة، مما يعيد إنتاج نفس البنى الاجتماعية والسياسية القديمة، وبالتالي لا تخلق تغييرا حقيقيا، بل قد تزيد حدة الاستقطاب، الذي يؤدي إلى فقدان الثقة الاجتماعية بين المكونات الاجتماعية، وتفكك الهوية الوطنية الجامعة.

وفي الختام، لا بد من الإشارة إلى أن رفض المؤسسات الدولية والإقليمية لتشكيل حكومة الدعم السريع (وهو رفض مزدوج)، ولرمزية الانتهاكات التي ارتكبتها هذه القوة في حق الشعب السوداني، هو رفض يعكس تمسكا بالمبادئ لا بالمصالح فقط، ويؤسس لمسار طويل من الضغط والعزل السياسي.

 

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى