
متابعات _ اوراد نيوز
لندن : المنابر الكذوب.
في زمن تعدد المنابر الصادقة و الكاذبة ومحاولات فرض الارادات و الأجندات، تُستحضر القيادة السودانية الإرادة الحرة التي تواثق عليها شعبها عبر اعوام مضت تجلت في أعلى تمثلاتها خلال حرب الخامس عشر من أبريل 2023، لا بوصفها مواجهة عسكرية او شعارات سياسية ، بل كفعل وجوديّ اسس بموجبه السودانيون مرحلة جديدة من السيادة الوطنية وعدم ارتهان القرار.
فليست الدولة حضورًا شكليًا في مؤتمرات الخارج، بل هي تعبير حيّ عن أمة تصوغ مصيرها بإرادتها الحرة، وتنهض من بين الأنقاض لتعلن: بأن القرار يُولد من رحم المعاناة لا من صالونات التفاوض. لذلك يتناغم التاريخ السوداني مع فلسفة “جان جاك روسو” في العقد الاجتماعي في قوله : إن الشعب لا يُستعبد إلا عندما يفقد إرادته وأن الحقائق لا تُستدعى من الخارج، بل تُنحت من الداخل .
في ظل هذه التعقيدات وتبدلات المواقف الدولية والإقليمية، برز مؤتمر لندن الأخير كمحطة تعكس التباين العميق في الرؤى والمصالح حول مستقبل البلاد. وعلى الرغم من محاولة بريطانيا ومعها الاتحاد الأوروبي وبعض القوى الغربية تقديم المؤتمر كمنصة لدعم السلام ووقف إطلاق النار، إلا أن إخفاق المؤتمر في الوصول إلى نتائج عملية أو تشكيل مجموعة تواصل فعالة، كشف حجم الفجوة بين أطراف الملف السوداني، وأعاد التأكيد على أن الحلول المفروضة من الخارج، دون إشراك الحكومة الشرعية أو احترام السيادة الوطنية، لن تؤدي إلى اختراق حقيقي.
بالمقابل، جاءت مواقف بعض الدول العربية، وفي مقدمتها السعودية ومصر، لتؤكد على أهمية احترام وحدة السودان ودعم مؤسسات الدولة، حيث شددت الرياض على رفض أي مساعٍ لتشكيل حكومة موازية أو كيان بديل، وهو موقف يتناغم مع الدعوة المصرية التي حملها السفير هاني صلاح لرئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، والتي جاءت في توقيت بالغ الحساسية، لتؤكد استمرار الدعم المصري للخرطوم، والتشديد على ضرورة التعاون الثنائي في ظل التحولات الراهنة. وتعيد هذه الزيارة المحتملة إلى القاهرة، التأكيد على المحور العربي الذي بدأ يستعيد موقعه في دعم السودان الرسمي، في مقابل محاولات بعض الأطراف الإقليمية – خصوصاً الإمارات – إعادة تشكيل المشهد السياسي عبر دعم أطراف غير شرعية.
هذا التناقض ظهر بوضوح في ختام مؤتمر لندن، حيث فشل المشاركون في الاتفاق على تشكيل مجموعة اتصال موحدة، بسبب خلافات بين الإمارات من جهة، ومصر والسعودية من جهة أخرى، حول أسس التعامل مع الحكومة السودانية المعترف بها دوليًا. في وقت تسعى فيه أبوظبي للظهور كطرف محايد بينما تمارس دعمًا ميدانيًا واضحًا للمل_يشيا. ولعل تصريحات بعض القادة الأوروبيين – مثل وزير الخارجية الفرنسي ونظيرته الألمانية – التي شددت على ضرورة وقف الدعم الخارجي للأطراف المتصارعة، تكشف إدراكًا متزايدًا داخل أوروبا لطبيعة الصراع المركبة وتدخلاته الإقليمية.
ومن جانبها اتسمت الحكومة السودانية بوضوح الرؤية، ورفضت محاولات الالتفاف على شرعيتها، ووصفت مؤتمر لندن بأنه “صفر كبير”، مؤكدة أن أي بحث في مستقبل السودان لا يمكن أن يتم خارج إطار الاعتراف بمؤسسات الدولة، وبدون إشراك الحكومة المعترف بها أمميًا. هذا الموقف يجد صداه في الشارع السوداني الذي أثبت خلال عامان من الحرب صموده، ورفضه لكل محاولات تشويه القوات المسلحة السودانية أو النيل من وحدة البلاد، وهو ما عجزت بريطانيا عن قراءته عندما حاولت أن تكتب واقعًا جديدًا على مقاس بعض اللوبيات.
وتبدو المملكة العربية السعودية في هذا السياق، الأقرب إلى المزاج والوجدان السوداني، حيث أكدت عبر نائب وزير خارجيتها وليد الخريجي على أن الحل يجب أن يكون سودانيًا – سودانيًا، وأن الحفاظ على سيادة البلاد هو مدخل أساسي لاستقرار الإقليم. كما تعهدت المملكة – بحسب ما صرح به وزير المالية جبريل إبراهيم – بدعم إعادة إعمار السودان، وهو التزام عملي يتجاوز الخطابات، خاصة أن الخرطوم تحتاج إلى بنية تحتية جديدة، تبدأ من إعادة تأهيل المطار، لاستئناف المهام الحكومية واستقبال الوفود.
وبينما تمضي الحرب في حصد الأرواح وتدمير مقدرات البلاد، مع تقارير تشير إلى مقتل ما لا يقل عن 150 ألف مدني ونزوح أكثر من 12 مليون شخص، لا يزال بعض الفاعلين الدوليين والإقليميين يتعاملون مع الأزمة باعتبارها ملفًا للضغط السياسي وليس معاناة إنسانية حقيقية. إن إصرار بعض القوى على تجاهل الحكومة الشرعية في هذه المرحلة، واحتضان أطراف غير معترف بها، يمثل تحديًا لمبادئ القانون الدولي، ويعيق فرص التوصل إلى حل دائم.
هذا وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة فإن قراءة المتغيرات الإقليمية والدولية على ضوء ما جرى في لندن تؤكد أن ما من سلام حقيقي يمكن أن يُبنى على توازنات مضطربة، أو تحالفات مؤقتة، أو تسويات لا تراعي الوقائع على الأرض. إن طريق الحل يبدأ من الاعتراف بالحكومة القائمة، واحترام إرادة الشعب السوداني، وتحجيم التدخلات الخارجية، لا سيما من الأطراف التي تسعى لإطالة أمد الحرب بما يخدم مصالحها الضيقة على حساب أمن السودان ووحدته.