تحقيقات وتقارير

السودان يتحول : مدن سودانية تنهض من رماد الحرب والخرطوم تتراجع

متابعات _ اوراد نيوز

متابعات _ اوراد نيوز

بينما تُشرف الخرطوم، قلب السودان النابض، على انهيار مروع بفعل حرب مستمرة منذ أكثر من عامين، تُعلن مدن أخرى على أطراف المشهد الجغرافي عن صعود استثنائي يُعيد رسم خارطة النفوذ الاقتصادي والعمراني في البلاد. هذه العاصمة التي كانت مرادفًا لمركز القرار والسيطرة، باتت اليوم فراغًا سكانيًا ومؤسساتيًا، تاركة المجال لـبورتسودان، عطبرة، القضارف، شندي، والدبة لتتحول إلى حواضن بديلة للدولة، الاقتصاد، والمجتمع. هذا التقرير يرصد هذه التحولات الجذرية، مُستكشفًا كيف أصبح الهامش مركزًا مؤقتًا، وربما دائمًا، في ظل الانهيار المتسارع للعاصمة.

حطام السيارات على جنبات الطرق في العاصمة السودانية
حطام السيارات على جنبات الطرق في العاصمة السودانية

 

 

بورتسودان: من ميناء إلى عاصمة مؤقتة

 

تُعد بورتسودان، “درّة الشرق”، القابعة على الساحل الغربي للبحر الأحمر، أبرز مثال على هذا التحول. منذ اندلاع الحرب في الخرطوم، لم تعد مجرد ميناء، بل تحولت إلى مركز إداري بديل للحكومة وملاذًا آمنًا للنازحين والفارين من مناطق الصراع، ومقصدًا حيويًا للمسافرين بحرًا وجوًا. جذبت المدينة المستثمرين ورجال الأعمال، وأصبحت مقرًا للمنظمات الدولية والإنسانية والسفارات الأجنبية. كما اكتسب مطار بورتسودان الدولي والميناء البحري الوحيد في السودان أهمية استراتيجية واقتصادية غير مسبوقة، مُعوضين غياب العاصمة. هذا الانتعاش، ورغم إيجابياته، أدى إلى تضخم هائل في أسعار العقارات، ما خلق فجوة اقتصادية بين الوافدين الجدد والسكان الأصليين.

حركة مواصلات نشطة في بورتسودان
حركة مواصلات نشطة في بورتسودان

 

عطبرة، شندي، والقضارف: محركات النمو الصناعي والزراعي

 

في الشمال، برزت عطبرة، “مدينة الحديد والنار”، كمركز صناعي متسارع. مستفيدة من موقعها الاستراتيجي عند تقاطع الطرق القومية وتدفق رؤوس الأموال الهاربة، خاصة في قطاع تعدين الذهب الأهلي، ارتفع عدد سكانها من 75 ألفًا إلى نحو مليوني نسمة. وشهدت المدينة طفرة عمرانية وتجارية وصناعية، لتصبح ولاية نهر النيل (التي تتبع لها عطبرة) مع ولاية البحر الأحمر مصدرًا لنحو 70% من ذهب السودان.

 

أما في الشرق، فقد استقطبت القضارف، معقل الإنتاج الزراعي، استثمارات ضخمة وشهدت تشغيل نحو 32 مصنعًا في قطاعات متنوعة. هذا التوسع الصناعي الزراعي لم يسهم فقط في تقليص الفجوة الغذائية، بل وفر أيضًا فرص عمل واسعة، مُنعشًا سوق العقارات ومُحسنًا القوة الشرائية، حتى في ظل تفاقم البطالة والتضخم ببقية البلاد.

القضارف جذبت عشرات المصانع الكبرى، وأصبحت من أبرز بؤر النمو الزراعي والصناعي

 

 

وفي شندي، شمال الخرطوم، استقرت عشرات المصانع التي فرت من العاصمة، لتُخصص لها المدينة الصناعية المتكاملة. وتشمل الصناعات الجديدة مجموعة واسعة من المنتجات الغذائية والمعدنية والبلاستيكية والعطور. كما تحولت شندي إلى مركز للمعارض والأسواق التي كانت حصرية للخرطوم، مما ضاعف عدد سكانها أكثر من 5 مرات ورفع إيجاراتها بشكل غير مسبوق.

شندي تحولت إلى قطب صناعي بديل، مع انتقال عشرات المصانع من الخرطوم إلى أراضيها
شندي تحولت إلى قطب صناعي بديل، مع انتقال عشرات المصانع من الخرطوم إلى أراضيها

 

 

الدبة: الميناء البري الذي يربط السودان

 

في شمال السودان أيضًا، تحولت مدينة الدبة الواقعة على منحنى نهر النيل إلى ميناء بري ضخم ومركز حيوي يربط بين الأقاليم الشمالية والغربية والشرقية. أصبحت الدبة نقطة استقبال وتوزيع مركزية للسلع القادمة من المثلث الحدودي مع مصر وليبيا، بالإضافة إلى الواردات المصرية المباشرة. كما غدت ملتقى للنازحين الفارين من تدهور الأوضاع الأمنية والخدمية في دارفور وكردفان. ارتفع عدد سكان الدبة من نحو 50 ألفًا إلى أكثر من 500 ألف نسمة في عامين فقط، مُعززة مكانتها كمركز اقتصادي ناشئ بفضل موقعها الاستراتيجي الذي يسهل حركة التجارة والتصدير.

 

هل يُعيد صعود المدن تشكيل مستقبل السودان؟

 

إن التحولات العميقة التي تشهدها هذه المدن لا تمثل مجرد استجابة ظرفية للحرب، بل تُشير إلى إعادة توزيع حقيقي للثقل السكاني والاقتصادي في السودان. هذه المدن، التي كانت على الهامش، أصبحت في غضون عامين محاور جديدة للنمو العمراني والاقتصادي، مُستوعبة موجات النزوح والاستثمار.

يبقى التساؤل الجوهري: هل سيُفضي هذا الصعود إلى تغيير دائم في الجغرافيا السياسية والاقتصادية للسودان، أم أنها مجرد لحظة طارئة ستتلاشى بانتهاء الحرب؟ الأكيد أن واقع ما بعد الخرطوم لن يُشبه ما قبلها، وأن هذه المدن باتت تمتلك الآن مفاتيح جديدة لمستقبل البلاد.

 

المصدر: الجزيرة

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى