اقتصاد

جبل الذهب والدماء.. كيف تحوّل جبل عامر من نعمة إقتصادية إلى لعنة سياسية في دارفور؟

متابعات _ اوراد نيوز

متابعات _ اوراد نيوز

في أعماق ولاية شمال دارفور، وعلى بُعد حوالي 100 كيلومتر شمال مدينة الفاشر، يرقد جبل عامر، ذاك الجبل الذي كان يومًا مغمورًا في رتابة الصحراء، قبل أن يتحوّل عام 2012 إلى أحد أهم مكامن الذهب في السودان، ليصبح بعدها محورًا لصراعات قبلية، وأداة في لعبة النفوذ السياسي والعسكري.

ذهب على فوهة بندقية

مع أولى الاكتشافات الذهبية، اندفعت جموع من مختلف أنحاء السودان، وأفريقيا الوسطى، وتشاد، ومالي، والنيجر، وحتى نيجيريا، نحو الجبل في حمى جديدة للثراء السريع.

لكن ما لبث هذا الازدهار أن أفرز صراعًا شرسًا بين قبيلتي بني حسين والرزيقات، سرعان ما تحوّل إلى حرب طاحنة في عامي 2013 و2014، راح ضحيتها المئات وأدّت إلى نزوح قسري وأزمات إنسانية متفاقمة.

في خضم هذه الفوضى، تمكنت مليشيا الجنجويد – والتي تطوّرت لاحقًا إلى قوات الدعم السريع – من بسط سيطرتها على الجبل، قبل أن تؤول ملكيته الفعلية إلى شركة الجنيد التابعة لعائلة دقلو، وتحديدًا عبد الرحيم دقلو، شقيق قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي).

منجم يموّل النفوذ

لم يكن جبل عامر مجرد مورد اقتصادي؛ بل أصبح الخزان السري لتمويل قوات الدعم السريع، ووسيلة لتعزيز النفوذ السياسي لحميدتي، الذي استثمر الذهب لبناء علاقات إقليمية، وتعزيز موقعه في معادلة السلطة السودانية. فقد مثّل الذهب المستخرج من الجبل – والذي قُدّر إنتاجه السنوي بنحو 50 طنًا – مصدرًا أساسيًا لتمويل العمليات العسكرية وتجنيد المقاتلين.

وخلال فترة سيطرتها من 2017 إلى 2021، كانت شركة الجنيد تنتج ما يتراوح بين 30 إلى 40 كجم من الذهب شهريًا، بحسب تقديرات غير رسمية، لكن غالبية الإنتاج تم تهريبه إلى الخارج بعيدًا عن أعين الدولة، دون أن تستفيد الخزينة العامة أو سكان المنطقة من هذه الثروة.

صراع الرزيقات وبني حسين.. جذور دامية

النزاع القبلي في جبل عامر لم يكن وليد اللحظة. فبني حسين، التي كانت تسيطر على المنطقة تاريخيًا، واجهت في 2013 هجومًا واسع النطاق من الرزيقات – وتحديدًا بطن المحاميد – في نزاع أدمى المنطقة.

واتُّهمت الحكومة حينها بدعم المهاجمين، ما فاقم التوترات، خصوصًا مع عجز الجيش عن التدخل. هذا الهجوم أدى إلى كسر شوكة بني حسين، وتمكين موسى هلال، زعيم المحاميد، من السيطرة على الجبل.

لكن الصراع اتخذ منحىً سياسيًا لاحقًا، بعد أن انشق هلال عن النظام الحاكم، ورفض دمج قواته ضمن الدعم السريع. وعندما أعلن عن تأسيس مجلس الصحوة الثوري ورفض حملة جمع السلاح، كان ذلك بمثابة إعلان مواجهة مع الخرطوم.

في نهاية 2017، أطلقت قوات الدعم السريع حملة ضد موسى هلال، انتهت باعتقاله هو وأبناؤه، ليتحوّل جبل عامر بعدها إلى منطقة نفوذ خالصة لقوات حميدتي.

عمال في مناجم الذهب بالسودان
عمال في مناجم الذهب بالسودان

 

تنازل مثير للجدل

في يناير 2021، وفي خطوة مفاجئة، أعلنت شركة الجنيد تنازلها عن مناجم جبل عامر للحكومة الانتقالية بقيادة عبد الله حمدوك. لكن الوثائق المسربة لاحقًا كشفت أن التنازل لم يكن مجانيًا، بل شمل حزمة من الامتيازات: تعويضات ضخمة، وحصص من شركات تعدين حكومية، وإعفاءات ضريبية، ما أثار موجة جدل واستفهام حول طبيعة هذا “الاتفاق”.

ورغم إعلان السيطرة الحكومية، فإن التقارير تشير إلى انخفاض الجدوى الاقتصادية للمناجم، نتيجة النضوب التدريجي للذهب السطحي، وتعقيدات استخراج الذهب من الأعماق.

ثروة لم تنعكس على السكان

ورغم القيمة الاقتصادية الهائلة لجبل عامر، ظل سكان المنطقة يعانون من غياب التنمية والخدمات الأساسية. فالثروة لم تُترجم إلى مدارس أو مستشفيات أو بنى تحتية، بل تحوّل الجبل إلى رمز لمعاناة إنسانية ونزاعات متواصلة، دفعت الآلاف إلى النزوح، وخلّفت وراءها قرى مدمّرة وذكريات دامية.

 

جبل عامر اليوم: ثروة منهوبة وأمل معلق

لا يزال جبل عامر، حتى اليوم، رمزًا مزدوجًا في ذاكرة السودان: فهو من جهة كنز دفين أنعش آمال الاقتصاد في وقت حرج بعد انفصال الجنوب، ومن جهة أخرى جرح نازف في جسد دارفور، وساحة لصراع السلاح والذهب والسياسة.

وتبقى الأسئلة قائمة: من يملك الذهب فعلًا؟ وهل يعود يومًا ليكون موردًا وطنيًا حقيقيًا، أم يظل رهينة المليشيات والصراعات؟

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى