
متابعات _ اوراد نيوز
إعادة تقييم طموحات تحويل السودان إلى ممر جوي دولي: بين الرؤى المثالية والواقع الصعب
شهدت المنطقة تحولات متسارعة، لا سيما بعد الهجوم الإسرائيلي على إيران، مما أثار دعوات لاستغلال الموقع الجغرافي الفريد للسودان، بهدف إعادة فتح مجاله الجوي المغلق منذ أبريل 2023 وتحويله إلى مسار حيوي للطيران المدني العالمي.
من بين الرؤى المطروحة، تبرز مبادرة الأستاذ سامي الأمين، التي وإن كانت زاخرة بالأمل وثرية بالحلول النظرية، إلا أنها تفتقر إلى فهم عميق للمصاعب الواقعية التي تعيق تحقيق هذا الطموح. لا جدال في أن الفكرة ذاتها نبيلة وتستحق النقاش، وتعكس رغبة صادقة في استعادة السودان لمكانته السيادية والمؤسسية في قطاع الطيران. لكن العقبة الحقيقية تكمن لا في جوهر الفكرة، بل في إمكانية تطبيقها على أرض الواقع، حيث تواجه تحديات جسيمة تجعل التنفيذ الفعلي غير وارد في المرحلة الراهنة.
تحديات رئيسية تعوق تفعيل المجال الجوي السوداني:
بنية تحتية مهترئة: بعد مرور أكثر من عام على إغلاق المجال الجوي، تعاني المرافق الحيوية من دمار وإهمال شديدين. مطار الخرطوم ومرافقه الأساسية باتت خارج الخدمة تمامًا، في حين أن البدائل المتاحة، كمطار بورتسودان، تفتقر إلى الإمكانيات الفنية والتقنية اللازمة لاستقبال وتشغيل حركة الطيران الدولي بكفاءة وأمان. تعاني أنظمة الاتصال والمراقبة الأرضية من ضعف بالغ، كما أن الكوادر البشرية المؤهلة إما متناثرة، أو أُبعدت، أو تعمل في ظروف قاسية. الحديث عن أي جاهزية تشغيلية اليوم يستدعي إعادة بناء شاملة، وليس مجرد إعادة فتح رمزية.
خطر أمني داهم: تعتمد سلامة الطيران المدني على سيطرة الدولة الكاملة على أجوائها ومرافقها. غير أن الواقع السوداني الحالي لا يوفر هذه السيطرة، حيث تخرج مساحات شاسعة من البلاد عن سلطة الدولة، وتشهد اشتباكات مسلحة مستمرة. هذا الوضع يجعل من الصعب، بل من المستحيل أحيانًا، ضمان أمن الطيران فوق هذه المناطق. الشركات العالمية لا تجازف بالتحليق فوق مناطق عالية المخاطر، وهي قرارات تحكمها تقييمات أمنية دولية صارمة تصدر عن هيئات مرموقة كمنظمة الطيران المدني الدولي (ICAO)، والاتحاد الدولي للنقل الجوي (IATA)، والوكالة الأوروبية لسلامة الطيران (EASA)، ولا تتأثر بالعواطف أو المبادرات الوطنية.
محدودية الفائدة الجغرافية: على الرغم من الموقع الاستراتيجي للسودان في قلب أفريقيا، فإن معظم الحركة الجوية العابرة في المنطقة – سواء من الخليج إلى أوروبا أو من آسيا إلى غرب أفريقيا – لا تعبر المجال الجوي السوداني بشكل أساسي، أو لا تعتمد عليه اعتمادًا جوهريًا. باستثناء عدد قليل من شركات الطيران التي قد تستفيد من مسار أقصر عبر السودان، سيبقى الأثر الفعلي على حركة الملاحة العالمية محدودًا جغرافيًا، خاصة في ظل وجود بدائل آمنة ومتاحة حاليًا.
مقارنة خاطئة بأوكرانيا: أشار البعض إلى مقارنة الوضع السوداني بالحالة الأوكرانية، وهي مقارنة مضللة تمامًا. فأوكرانيا، رغم الصراع، تدير مجالها الجوي بتقنيات متقدمة، وتعتمد على تعاون دولي وثيق، وتُحدِّث تقييمات مخاطر الملاحة بشكل يومي. أما السودان، فيفتقر إلى أبسط هذه الأدوات: لا رادارات فعالة، ولا تحديثات فورية للمعلومات الجوية، ولا خطة تشغيلية تفي بشروط السلامة الدولية.
غياب الإطار المؤسسي والتنظيمي: إن إعادة فتح المجال الجوي ليست مجرد قرار عاطفي، بل هي عملية معقدة تتطلب جاهزية قانونية، وفنية، وتشغيلية متكاملة. حتى اللحظة، لا يوجد مركز تحكم جوي بديل موثوق، ولا منظومة لإصدار الإشعارات الجوية (NOTAMs) بشكل دوري ودقيق، ولا تنسيق كافٍ مع دول الجوار لضمان سلامة الحركة الجوية العابرة. كما أن سلطة الطيران المدني الحالية لم تُعلن بعد عن أي خطة شاملة لإعادة تأهيل البنية التحتية، أو تدريب الكوادر، أو التنسيق مع المنظمات الدولية في هذا الشأن.
عائدات مالية لا تبرر المخاطرة: صحيح أن المجال الجوي السوداني يمثل موردًا اقتصاديًا مهمًا، لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال تغليب العوائد المحتملة على معايير السلامة والسيادة الفنية. إن المجازفة بفتح الأجواء دون جاهزية كافية قد تضر بسمعة السودان ومصداقيته أمام المجتمع الدولي، وتُعرضه لخطر الحظر أو العقوبات التقنية.
خلاصة: نحو إعادة فتح آمن ومسؤول
إن الرؤية المطروحة طموحة بلا شك، لكنها في ظل الواقع الراهن غير قابلة للتنفيذ. من الأجدى أن نُركز جهودنا على إعادة فتح المجال الجوي السوداني في أقرب وقت ممكن، ولكن بطريقة آمنة وسليمة، تضمن سلامة الأجواء وحسن التنظيم.
يجب ألا ننسى أن السودان يمتلك كوادر مؤهلة ومتخصصة أثبتت كفاءتها سابقًا في إدارة المجال الجوي بمهنية واقتدار. لكن هذه الكفاءات بحاجة إلى بيئة آمنة، وإرادة مؤسسية قوية، وخطة وطنية مدروسة تُعيد السودان إلى خارطة الملاحة الجوية بثقة واستقرار.