مقالات

هل يُحوِّل ديربي الدينكا والنوير جوبا إلى أكوام رماد ؟

متابعات _ اوراد نيوز

كل من عمل بجنوب السودان من أهل الشمال، يدرك تماماً مستوى العداء ودرجات الكراهية بين قوميتي الدينكا والنوير، فهي عداوة أكثر حدة من عداوة الخصمين اللدودين في عالم كرة القدم ريفر بليت وبوكاجونيورز، فصراع الدينكا والنوير قد يجتذب بعض القبائل الأخرى والتي قد تدخل مناصرة لإحداهما على الأخرى مثل قبائل “المورلي أو الفراتيت والباريا والزاندي والتبوسا والشلك” وان كان هوى الشلك أقرب إلى التحالف مع النوير باعتبار أن ملكال أرض الشلك هي واحدة من مناطق نفوذ النوير وتسمى مناطق شرق النوير في حين أن مناطق بانتيو – ربكونا هي غرب النوير.شاء المولى عز وجل أن ننتقل للعمل في سنين مضت بمناطق غرب النوير لفترة تجاوزت أربعة أعوام، تعاملنا خلالها مع أغرب شعوب الأرض، فقبائل النوير تشعرك كما ولو أنهم ليسوا من البشر، إذ لهم قانون خاص يحكمهم فهم شعب متمرد بطبعه يرفض التقيد بالقوانين الوضعية ولا يلين ولا ينكسر بسهولة لطاعة الحكام، وحتى الدين عندهم ستدرك أنه لا وجود حقيقي له في حياتهم فهم مسيحيون فقط بالاسم، وفقاً لعادات وتقاليد القومية ولكن لا وجود لتطبيق شعائر المسيحية كمنهج حياة، إذ أن حياتهم الاجتماعية تبتعد تماماً عن تعاليم الدين المسيحي، فكل المسيحيين على وجه البسيطة يلتزمون بالزوجة الواحدة مع وجود عشيقة في الخفاء عند أغلبهم، بيد أن المسيحيين النوير لا يتوقفون عند زوجة واحدة فيمكن أن يكون للفرد الواحد خمسة عشر إلى عشرين زوجة، بل إنّ الابن يرث زوجة الأب وهكذا لديهم العديد من العادات والطقوس الخاصة بهم.

 

 

واذكر اننا كنا قد ذهبنا برفقة اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى منطقة كج وهي إحدى مناطق نفوذ القائد استيفن بوي وهو من القيادات المقربة من رياك مشار، ذهبنا إلى هناك للمفاوضة من أجل إطلاق سراح (16) أسيراً يتبعون للقوات المسلحة السودانية كان قد تم أسرهم في العام 1993م، وهنالك التقينا بالقائد ملوال وهو من قادة النوير فحكى لنا ان له 19 زوجة أنجبن له 45 طفلاً ما بين ولد وبنت، وقال إنّه يعرف زوجاته ولكنه لا يعرف الأبناء، وهكذا حياة النوير الاجتماعية مليئة بالأساطير والغرائب.وما بين النوير والدينكا عداوة تاريخية تعود إلى سنين طويلة، ففي واحدة من زيارتنا إلى بحر الغزال وبالتحديد منطقة كواجوك كنا ضمن وفد عسكري للتوسط لحل خلاف بين الدينكا والنوير، باعتبار أن مناطق بحر الغزال لديها حدود مشتركة مع ولاية الوحدة، واذكر أن الحاكم وقتها ويدعى لويس كان قد حشد لنا مجموعات كبيرة من الدينكا لإظهار القوة وكانوا يقاطعوننا في الحديث بالترنم بأغان وأهازيج عرفنا فيما بعد أنها كلها تحمل شتائم للنوير وتمجيد لأبطالهم من الدينكا الذين خاضوا المعارك ضد النوير في حقبٍ تاريخية مختلفة.

 

 

وحين عودتنا إلى بانتيو وجدنا أن العداوة أشد ضراوة والنوير يعتبرون من أشرس البشر في الحروبات فلديهم شجاعة لا تقارن حتى بفراسة الأسود.

 

 

بالعودة إلى عنوان المقال وهو ديربي جوبا بين الدينكا والنوير وهي الحرب التي اشتعلت الآن بعد أن أخمدت نيرانها لفترة تقارب عشرة أعوام، فخلال العام 2015م كان قد تفجر الصراع الدموي بجوبا بين سلفاكير الرئيس (دينكا) ورياك مشار نائبه كبير النوير ورغم انتهاء الازمة لعام وعودة الحياة إلى طبيعتها في جوبا، الا ان الحرب نشبت مرة أخرى خلال العام 2016م وتدخل بعدها السودان عبر وساطة لجأ بموجبها رياك مشار إلى الخرطوم إلى ان قاد مدير المخابرات الأسبق صلاح قوش العائد في 2018م وساطة بين الجنرالين عاد بعدها رياك مشار بموجب اتفاق الخرطوم إلى جوبا، ولكن ظل ما في القلب في القلب وكلٌّ يتربص بخصمه ولا يشرب أي منهما من كوب قدم في مجلس يجمعهما.

 

 

 

تفجّرت الأوضاع مرة أخرى أمس الثلاثاء الرابع من مارس 2025م، وتصاعدت حدة التوتر بعد اعتقال رياك مشار أو وضعه في الإقامة الجبرية كما ورد في الاخبار ، ولكن هذه المرة لن تكون الازمة عابرة كما المرات الأخرى، فقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر ، أمريكا لا عادت هي أمريكا التي كانت حريصة علي استقرار جنوب السودان، وتغيرت الأزمنة والشخوص، حتى أفريقيا أصابها ما أصابها، إذ خرجت فرنسا مجبرة من أفريقيا، كما أن السودان والذي طالما شكّل الملجأ الملاذ الآمن للفارين من جحيم حروب جنوب السودان الداخلية، ما عاد هو السودان المستقر، بل أصبح الآن وطناً تمزقه الحرب وحدوده مع الجنوب أشد التهاباً، ويواجه البلد المتآمر عليه من جيرانه وأصدقائه يواجه واحدة من أقبح حروب القرن الواحد وعشرين، حرب تدعمها بخُبث الإمارات وتغذيها دناءة وخِسّـة جيرانه وحتى قادة السودان الأب والذين كانوا يشكلون بلسماً لجراحات جنوب السودان الآن هم مهمومون بإعادة الأمن والاستقرار لوطنهم، وحتى جنوب السودان نفسه لم يكن هو جنوب السودان قبل عشرة أعوام، فوقتها كان الديربي نوعا ما دافئا، ولكن الآن هنالك لاعبون جدد قد دخلوا الملعب وهم مجموعة من القادة العسكريين كانوا محسوبين على سلفاكير ولكنهم الآن مرتبطون بجهات خارجية يحملون أجندة وطموحات تلك الجهات التي تدعمهم مثل الإمارات وبريطانيا وإسرائيل اللاعب الرئيسي في أي صراع بأفريقيا او الوطن العربي.

 

 

اشتعلت الحرب مرةً أخرى بسبب ضعف وسوء اخلاق العجوز المرتشي سلفاكير والذي أهلكه المرض وهو الرقيب أول السابق في الجيش السوداني قبل أن يتمرد وبعدها يصبح رئيساً كرتونياً لجنوب السودان.

 

وجنوب السودان ليس كما السابق، فقد أضحى الآن ذلك البلد المنكوب والذي مزّقته الحروبات والصراعات منذ أن نال استقلاله في يوليو 2011م، أضحى لعبة في يد الإمارات والقوى الدولية المتربصة بالسودان الشمالي، وتناصر تلك القوى وتدعم مليشيات الجنجويد وعصابات عبد العزيز الحلو بغرض تفكيك الجيش السوداني وإعادة صياغة السودان من جديد وفقاً لرؤى وأحلام الماسونية العالمية!!

 

 

إذن فإن ديربي جوبا المسلح بين مشار وسلفاكير هذه المرة ليس كما كان في الماضي، إذ يبدو أننا ننتظر صيفاً ساخناً من الصراع بين الطرفين النوير والدينا، والمرجح ان تنفصل مناطق النوير وتطالب بحكم ذاتي، خاصةً وأنّ كل نفط جنوب السودان موجود عندهم في حقول فلج أو ملوط وسارجاث وحقول الوحدة.

والنوير من القبائل الشرسة في القتال، إذ وصفهم تقرير نشرته (الجزيرة. نت) إنهم “أشرس البشر” على ظهر الأرض، ويمتلكون أساطير شعبية “شبه مقدسة”. تؤدي دوراً كبيراً في وتذكية الصراع المسلح خاصة مع الخصم والعدو الدود الدينكا.

 

 

ويحتل النوير المرتبة الثانية بعد الدينكا من حيث التعداد السكاني (عددهم يزيد عن 2 مليون نسمة).

 

يقول الباحث مبروك بوطقوقة في بحث له بعنوان “شعب النوير.. رؤية أنثروبولوجية”، إن أساطير النوير شبه المقدسة لديهم تحكي أن جدهم الأكبر “لانجور” وهم ينحدرون أصلاً من الجد “إبينوينق” شقيق “دينق” الذي هو جد الدينكا، ورغم أن الباحثين في شؤون هذه القبيلة يؤكدون أنه لا يوجد تنظيم سياسي مشترك ولا إدارة مركزية لها، فإنهم يقرون بأن هنالك نسقاً اجتماعياً مميزاً وتنظيماً دقيقاً داخلهم، إذ لديهم عادات متفردة ربما لا تضاهيها عادات اجتماعية في العالم. وتعتمد القبيلة في معيشتها على تربية الماشية وخاصة البقر الذي يرتقي عندهم إلى مقام الإنسان فلا يُركب ولا يُذبح، وتدور عليه حياتهم الاجتماعية كلها ويعتبر أهم عناصر الثروة لديهم، وله مكانة كبيرة في غذائهم الذي يتضمن دائماً اللبن والدم.

ومن عادات النوير شيوع التدخين بالغليون بين الرجال والنساء، وامتلاك أبنائها مهارات قتال عالية منعتهم قديماً من الخضوع لاسترقاق الآخرين، لكنهم مع ذلك يعتمدون تقليداً اجتماعياً لمحاربة الضغينة بآلية تعرف بـ”زعيم جلد النمر”، وهو شخص متخصص ينتمي إلى مجموعة نسب معينة يُعهد إليها وفق طقوس محددة بإقامة فعاليات اجتماعية مختلفة في حياة النوير.

وتبرز أهمية هذا التقليد عندما يُقتل شخص ما، إذ على القاتل أن يتوجه فوراً إلى “الزعيم” فيقوم الأخير بجرح يده حتى يسيل الدم ثم يبقى في منزل الزعيم لأنه “مكان مقدس” لدى القبيلة ولا يمكن هتك حرمته، وعلى “الزعيم” أن ينتزع من أقرباء القاتل وعداً بدفع تعويض لتجنب الثأر، ويقنع أقرباء القتيل بأن عليهم قبول التعويض.

 

وفي مايو 2009 احتفل أبناء قبيلة النوير يتقدمهم زعيمهم السياسي رياك مشار في جوبا عاصمة جنوب السودان بعودة عصا تسمى “دانق” كان يستعملها كاهن القبيلة “نقون دينق” في طقوسه، وأخذتها قوات المستعمر البريطاني عام 1929 من مقر الكاهن بالقرب من قرية “واط”، بعد هزيمة النوير في حرب بين الطرفين.

وكان “غليون الكاهن وطبلته” أعيدا بالفعل قبل ذلك من بريطانيا إلى منطقة النوير.

وتنظر القبيلة إلى تلك العصا السحرية المصنوعة من جذور شجرة تمر هندي والمزينة بأسلاك النحاس باعتبارها رمزاً لقوة القبيلة في المنطقة، ويظنون أنها مشحونة بـ”طاقة روحية هائلة”، وبحسب اعتقادهم أن من يمتلك تلك العصا هو من سيحكم جنوب السودان.

 

كتبه : عبدالسميع العمراني

خبير امنى واستراتيجى

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى