اقتصاد

الذهب: ما أهميته الاقتصادية، وما العوامل التي تتحكم في أسعاره؟

منذ آلاف السنين والذهب يشد أنظار البشر، ليس فقط كزينة فاخرة تتوارثها الأجيال، بل كركيزة أساسية للاقتصاد العالمي وأداة لضمان الاستقرار في زمن الحروب والاضطرابات. ومع كل أزمة مالية أو سياسية، يعود هذا المعدن الأصفر ليتصدّر المشهد، وكأنه صمام الأمان الأخير للثروة.

لكن، ما سر هذه المكانة الاستثنائية؟ ولماذا ترتفع أسعاره فجأة لتسجّل أرقاماً قياسية، بينما تهوي في أحيان أخرى بشكل مفاجئ؟

الذهب… من عملات الملوك إلى بورصة عالمية

قصة الذهب مع الاقتصاد ليست جديدة؛ فقد صكّت أول عملة ذهبية في ليديا (تركيا حالياً) قبل أكثر من 2500 عام، واستمر استخدامه كعملة حتى ظهور “قاعدة الذهب” التي ربطت قيمة النقود بما يقابلها من سبائك محفوظة في خزائن الدولة. هذه القاعدة منحت الثقة للنظام المالي لعقود طويلة قبل أن تنهار في القرن العشرين مع اندلاع الحروب الكبرى والأزمات الاقتصادية.

لماذا تلجأ الدول للذهب في زمن الحروب؟

خلال النزاعات، لا شيء يحافظ على قيمته مثل الذهب. فبينما تنهار العملات وتتفكك الأسواق، تظل سبائكه قابلة للبيع في أي مكان بالعالم. روسيا مثلاً خزّنت كميات هائلة من الذهب قبل حرب أوكرانيا، حتى أصبح احتياطيها منه يفوق احتياطيات الدولار، لتستخدمه كـ”صندوق حرب” ضد العقوبات الغربية.

استثمار ذكي أم مخاطرة؟

بالنسبة للأفراد، يظل الذهب الخيار المفضل للادخار في المنطقة العربية والهند، حيث يجمع بين القيمة المادية والرمزية (زينة وملاذ آمن معاً). أما على المستوى العالمي، فيتحرك المستثمرون نحوه عندما تتراجع ثقة الأسواق في الأسهم أو السندات، فيتحول إلى “العملة الحقيقية” وسط عواصف التضخم وانخفاض الفائدة.

من يتحكم بسعر الذهب فعلياً؟

  • العرض والطلب: كلما صَعُبَ استخراج الذهب وزاد الطلب، قفزت الأسعار.

  • التضخم والفائدة: انخفاض الفائدة وارتفاع التضخم يعنيان مزيداً من الاندفاع نحو الذهب.

  • الأزمات الجيوسياسية: أي حرب أو توتر عالمي يدفع المستثمرين للتخلي عن الأصول الخطرة والاتجاه للمعدن الأصفر.

خلاصة

الذهب ليس مجرد معدن للزينة، بل هو “لغة مالية” عالمية لا تحتاج إلى ترجمة. في زمن الأزمات، يظل خياراً استراتيجياً يحفظ الثروة، حتى أن الكاتب جورج برنارد شو قال:

“صوّت للذهب.. لأنه أثبت استقراراً أكبر من ذكاء الحكومات.”

قاعدة الذهب: من عملات الملوك إلى انهيار النظام

منذ آلاف السنين ارتبط الذهب بالنظام النقدي العالمي، حتى صار يُعرف بـ”المعيار الصلب” للعملات. فقد أمر الملك كرويسوس في مملكة ليديا (تركيا الحالية) عام 550 قبل الميلاد بسك أول عملة ذهبية في التاريخ، لتبدأ رحلة المعدن الأصفر كأداة نقدية عابرة للزمن.

لاحقاً، انتقلت معظم الدول من العملات المعدنية إلى الورقية، لكنها أبقت على ارتباط وثيق بالذهب عبر ما عُرف بـ قاعدة الذهب. هذا النظام كان يضمن أن العملة الورقية يمكن تحويلها في أي وقت إلى كمية محددة من الذهب بسعر ثابت، وهو ما منح ثقة واستقراراً كبيراً للنقود.

من بريطانيا إلى العالم

عام 1821 كانت بريطانيا أول من تبنّى قاعدة الذهب، لتنهي بذلك هيمنة الفضة. ومع اكتشاف مناجم ضخمة للذهب في أميركا الشمالية، انتشر النظام في فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة، حتى صار أساس التجارة والتمويل الدولي.

الحربان العالميتان والكساد الكبير

لكن بريق القاعدة لم يدم طويلاً. اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 أجبر الحكومات على طباعة المزيد من النقود وتمويل الحرب بعيداً عن قيود الذهب، ما أدى إلى انهيار النظام مؤقتاً. ثم جاءت أزمة الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن العشرين لتقضي على القاعدة نهائياً تقريباً.

بعد الحرب العالمية الثانية، حاولت بعض الدول إحياء النظام بشكل جزئي عبر “نظام التثبيت” الذي ربط الذهب بالدولار الأميركي. غير أن الولايات المتحدة نفسها تخلت عن هذا الربط عام 1971 بسبب تراجع احتياطياتها وتفاقم عجز ميزانيتها، لينتهي عصر قاعدة الذهب بشكل نهائي.

المزايا والقيود

تميزت قاعدة الذهب بقدرتها على ضبط التضخم ومنع طباعة النقود بلا ضوابط، لكنها افتقدت المرونة، إذ أن كميات الذهب في العالم لم تكن تواكب نمو الاقتصاد العالمي، ما جعلها عاجزة عن مواجهة الأزمات.

الذهب اليوم

رغم أن الذهب لم يعد أساس النظام النقدي، إلا أن البنوك المركزية حول العالم ما تزال تكدّس احتياطيات ضخمة منه باعتباره ملاذاً آمناً ضد عدم الاستقرار، وسلعة أكثر استقراراً من العملات والأسهم.

قطعة ذهب مكتوب عليها ذهب خالص
يمثل الذهب أهمية كبيرة للدول في أوقات الحرب والنزاعات

الذهب… ملاذ آمن في زمن الصراعات

يُنظر إلى الذهب كخيار ادخار استراتيجي للشركات والأفراد على حد سواء خلال فترات الحروب والنزاعات. فبفضل ارتفاع قيمته وسهولة حمله، يظل الذهب أكثر أماناً من العملات الورقية أو السلع الأخرى، إذ يمكن تسييله في أي سوق حول العالم دون الخوف من تقلبات أسعار الصرف.

ولا يقتصر دوره على الأفراد فقط، بل يشكّل الذهب ركيزة مهمة لسياسات الدول الاقتصادية في أوقات الأزمات.

روسيا نموذجاً

تشير تقارير إعلامية إلى أن روسيا اعتمدت بشكل واسع على الذهب لتقليل آثار العقوبات الغربية المرتبطة بالأزمة الأوكرانية. ووفقاً لصحيفة ذا تيليغراف البريطانية (3 مارس/آذار 2022)، فقد تجاوزت قيمة ما تمتلكه موسكو من الذهب احتياطياتها من الدولار الأمريكي بحلول يونيو/حزيران 2020، حيث مثّلت سبائك الذهب نحو 23% من إجمالي احتياطياتها.

كما أوضحت الصحيفة أن الكرملين نجح منذ عام 2010 في رفع احتياطي الذهب لدى البنك المركزي بأكثر من أربعة أضعاف، ليؤسس ما وصفته بـ”صندوق تمويل الحرب”، مستفيداً من وفرة الإنتاج المحلي، إذ تُعد روسيا ثالث أكبر منتج عالمي للمعدن النفيس.

قطع نقدية متراصة فوق بعضها
يعد استثماراً آمناً للشركات، ولكن عندما تكون أسعار الأسهم والسندات والعقارات منتعشة ومستقرة

ي

الذهب بين الاستثمار والزينة… رؤية اقتصادية

يرى الدكتور ناصر قلاوون، أستاذ الاقتصاد السياسي وخبير الطاقة والمعادن المقيم في لندن، أن الذهب يمثل استثماراً آمناً للشركات، لكنه ليس الخيار الأول عندما تكون الأسواق الأخرى مزدهرة. ويوضح أن “انتعاش أسعار الأسهم والسندات والعقارات يدفع المستثمرين إلى تفضيل أسهم الشركات ذات العائد المرتفع، مثل شركات وادي السيليكون في الولايات المتحدة أو شركات النفط في الخليج، بينما يظل الذهب مجرد وسيلة لحفظ الثروة لا لتنميتها”.

ويضيف قلاوون أن المعدن الأصفر يظل استثماراً آمناً للأفراد والأسر، خصوصاً في المنطقة العربية والهند، حيث يؤدي وظيفة مزدوجة تتمثل في الزينة والادخار تحسباً للظروف الصعبة.

اختلافات استهلاكية

ويلفت الخبير الاقتصادي إلى وجود تباين في أنماط استهلاك الذهب بين الدول الصناعية وغير الصناعية. ففي الولايات المتحدة وأوروبا يطغى الاستهلاك الصناعي للذهب على حساب الاستخدام المنزلي، إذ يدخل في صناعات استراتيجية مثل الحواسيب والهواتف الذكية والأجهزة الطبية ومعدات الفضاء.

أما في البلدان العربية، فيظل الاستهلاك المنزلي هو الغالب، حيث يُستخدم الذهب في الأعراس والهدايا ويُنظر إليه كملاذ آمن للادخار، ولا سيما من جانب النساء اللواتي يعتبرنه “ثروة صغيرة” تحفظ القيمة وتؤمّن المستقبل.

أهم العوامل التي تتحكم في أسعار الذهب

تتأثر أسعار الذهب بمجموعة من العوامل الاقتصادية والسياسية، التي تتفاعل مع بعضها لتحدد قيمته في السوق العالمية.

1. العرض والطلب

يعتبر هذا العامل هو الأساس، فمثل أي سلعة، يؤدي زيادة الطلب مع انخفاض المعروض إلى ارتفاع السعر، والعكس صحيح. وتجدر الإشارة إلى أن عملية تعدين الذهب تزداد صعوبة بمرور الوقت، مما يساهم في ارتفاع أسعاره على المدى الطويل.

2. التضخم وأسعار الفائدة والعملات

القرارات الحكومية النقدية لها تأثير مباشر على أسعار الذهب، فهو يُعد ملاذًا آمنًا في الأوقات الاقتصادية المضطربة.

  • التضخم: عندما ترتفع معدلات التضخم، تتجه رؤوس الأموال إلى الذهب كونه وسيلة للحفاظ على القيمة الشرائية.
  • أسعار الفائدة: يؤدي انخفاض أسعار الفائدة إلى جعل الاستثمارات الأخرى أقل جاذبية، مما يدفع المستثمرين نحو الذهب.
  • العملات: ضعف العملة المحلية يؤدي إلى ارتفاع سعر الذهب بالنسبة للمستثمرين المحليين، حيث يصبح الذهب أكثر قيمة مقارنة بعملتهم.

3. التقلبات الجيوسياسية

عدم الاستقرار السياسي، والصراعات، والتهديدات الإرهابية تدفع المستثمرين إلى البحث عن أصول آمنة. في هذه الأوقات، يصبح الذهب هو الخيار المفضل، مما يرفع من قيمته بشكل ملحوظ. وقد ظهر ذلك جلياً خلال الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث ارتفعت أسعار الذهب بنسبة تزيد عن 12% خلال عام 2022.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى